سياسة
لطالما اعتبرت الذاكرة الجمعية الإسرائيلية غزة كابوسًا. موشيه دايان وصفها بأنها برميل بارود، ونعت ساكنيها بأنهم “غير ودودين” ويحملون السلاح في كل لحظة، وتمنى لها إسحاق رابين الغرق، وقال إن من أحلامه أن يستيقظ ليجد غزة وقد ابتلعها البحر.
وبنفس الروح يضيف أرئيل شارون أن “غزة ليست مجرد قطعة أرض صغيرة يسكنها بشر عاديون، إنها بوابة الإرهاب التي يمكن أن تهدد العمق الإسرائيلي إذا لم نسيطر عليها”.
توصف غزة دومًا في المخيال الشعبي الإسرائيلي بالوحش، العنكبوت السام، الثعبان الجريح، بوابة الجحيم، وفي رواية أدبية إسرائيلية حديثة وُصفت غزة بأنها “ليست مكانًا، بل لعنة!”
القطاع الذي استحال كابوسًا بعد سنوات قليلة من احتلاله، جرب معه الإسرائيلي نظريات عدة، وثبت فشل كل واحدة منها على حدة، وكانت من أوائل هذه النظريات التي سعوا لتطبيقها ما يعرف بـ “الأصابع الخمسة”، التي بدأ الجيش الإسرائيلي في تنفيذها بعد عدة سنوات من خروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي باتفاقية كامب ديفيد.
في هذه الفترة، قرر وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، أرئيل شارون، تقسيم غزة إلى خمس مناطق كبرى من خلال بناء مستوطنات كبيرة وطرق التفافية وحواجز تفتيش ثابتة لتفتيت الترابط الجغرافي والاجتماعي للسكان الفلسطينيين، وكان الهدف المعلن شل قدرات المقاومة الفلسطينية عبر تقطيع أوصال المناطق التي تنشط فيها، وضرب حواضنها الشعبية.
أصابع شارون الخمس
يمتد قطاع غزة على مساحة تبلغ ٣٦٥ كيلو متر مربع تقريبًا، بلغ عدد المستوطنات الإسرائيلية داخله قبل ٢٠٠٥، ٢١ مستوطنة، وتم تقسيمه إلى خمسة أقسام رئيسية وفقًا للخطة:
١- المحور الشمالي (بيت حانون، وبيت لاهيا، وجباليا): شمل هذا المحور “محافظة شمال غزة” حاليًا، وعُزل بالكامل عن مدينة غزة، مع إقامة مستوطنات إيلي سيناي، دوغيت، ونيسانيت.
٢- مدينة غزة: قُسمت المدينة إلى مناطق فرعية، وأُخضعت لسيطرة صارمة عبر نقاط تفتيش، مع إقامة حواجز إسرائيلية داخلها لتقييد الحركة خاصة على الطرق المؤدية للجنوب.
٣- محور الوسطى (دير البلح وما جاورها): عُزل هذا المحور عن المناطق الشمالية والجنوبية بحاجز أمني رئيسي على طول طريق صلاح الدين -الطريق الرئيسي في غزة- بغرض حماية مستوطنتي نتساريم (جنوب مدينة غزة وشمالي المنطقة الوسطى) وكفار داروم (قرب دير البلح) التي كانت تمثل نقطة تمركز عسكري كبرى.
٤- خان يونس: قُسمت المدينة إلى قسمين؛ مناطق قريبة من المستوطنات مثل (نيفيه ديكاليم)، ومناطق بعيدة.
٥- المحور الجنوبي (محور فيلادلفيا ورفح): عُزلت رفح عن بقية القطاع بشكل صارم، خاصة المعبر المؤدي إلى مصر، مع التركيز على ممر فيلادلفيا، وتمتعت المستوطنات الرئيسية في رفح، مثل موراغ وغان أور، بحماية مكثفة.
مصير نتساريم هو مصير تل أبيب
رغم هذه الاحتياطات المكثفة، ازدادت وتيرة عمليات الفصائل الفلسطينية، ومثّل التواجد الأمني الكثيف، وحماية الطرق الالتفافية، وحراسة المستوطنات والحواجز الثابتة استنزافًا ماديًا وبشريًا ضخمًا للجيش الإسرائيلي. وبدلًا من كونها ورقة قوة ترسِّخ الوضع القائم، تحولت المستوطنات في قطاع غزة إلى عبء كبير، وتحديدًا مستوطنة نتساريم التي كانت تُعتبر قلعة، وسط قطاع غزة، واستنزفت كتيبة مشاة كاملة بالإضافة إلى سرية دبابات بغرض حمايتها، لكنها تحولت سريعًا إلى هدف دائم لعمليات إطلاق نار وتفجير عبوات من قبل الفصائل، بسبب عزلتها وصعوبة الدفاع عنها لترامي أطرافها.
ومع تصاعد الهجمات على مستوطنة نتساريم، تزايدت المطالبات في الداخل الإسرائيلي لإخلائها، حمايةً للجنود وللمستوطنين. حينها خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون بتصريحه التاريخي: “مصير نتساريم هو مثل مصير تل أبيب، إذا تخلينا عن نتساريم، سنعرض تل أبيب للخطر”.
واستمرت نتساريم في حياة ممزوجة بالخوف مثلها مثل تل أبيب، حتى اضطر شارون نفسه، تحت وطأة الاستنزاف المادي والبشري، إلى الانسحاب من قطاع غزة، أو ما سمي حينها (فك الارتباط)، وتفكيك ٢١ مستوطنة مع تدمير مبانيها لمنع الفلسطينيين من الاستفادة منها، إيذانًا بفشل خطة الأصابع الخمسة التي بدأها وأنهاها شارون بعد محاولات دامت أكثر من ٢٠ عامًا.
محاولة إحياء الموتى
بعد ١٠ سنوات على وفاة أرئيل شارون، صاحب الأصابع الخمسة، وبعد قرابة ١٥ عامًا من ذكرى قطعها عام ٢٠٠٥، كتبت صحف إسرائيلية عن محاولات حثيثة يقوم بها الجيش الإسرائيلي حاليًا لإعادة خطة الأصابع، إثر إنشاء محور نتساريم الذي تبلغ مساحته ربع مساحة القطاع، ويقسمه نصفين، بما يسمح لاحقًا بإنشاء قواعد عسكرية أو مستوطنات.
وفي مايو الماضي، أعلن جيش الاحتلال سيطرته على محور فيلادلفيا في الجنوب، بالإضافة إلى إحياء “الإصبع الأول” بعمليات تهجير السكان قسرًا من الشمال، بتجويعهم حتى الموت أو بالترحيل، فيما أُطلق عليه “خطة الجنرالات”. وتداولت صفحات إسرائيلية خريطة جديدة لغزة، تظهر محورًا جديدًا بين محافظة الشمال ومدينة غزة تحت اسم “مفلاسيم”. وخامس هذه الأصابع طبقًا لهآرتس هو محور كيسوفيم، وسيكون امتدادًا للمعبر الذي أعادت إسرائيل فتحه حاليًا، لتكتمل الأصابع الخمسة: محور الشمال، مفلاسيم، نتساريم، كيسوفيم، وأخيرًا فيلادلفيا.
غزة السرمدية
خطة نتنياهو الجديدة هي تجسيد لمعضلة الإسرائيليين في قطاع غزة. ليس هناك لا استراتيجيات واضحة، ولا فهم حقيقي للإنسان الغزي، لهذا عندما أراد غالانت أن يصف أهل غزة، قال إنهم “حيوانات بشرية”، إذ من الأسهل أن ينفي عنهم صفة الإنسانية، عوضًا عن الاعتراف بفشله في فهم دوافعهم وتوقع أفعالهم.
فالغزي من وجهة نظر إسرائيل، مجرد حيوان، وغزة ما هي إلا بوابة الجحيم التي يتمنون غرقها ولا يعرفون كيفية التصرف معها.
يسيطرون عليها بنية قمعها، فتبتلعهم، فيضطرون للهرب منها، فتنالهم لسعاتها، ثم يعودون لها للانتقام، فتبتلعهم مجددًا.. في دائرة عذاب تشبه أساطير الإغريق عن العذاب السرمدي الذي لا ينتهي أبدًا.