آراء
منذ عقود، كانت قضية القدس وغزة تمثل الشريان النابض في وجدان الأمة الإسلامية والعربية. كان نبض الشعوب متصلًا بهذه القضية، يهتز مع كل انتهاك ويثور مع كل عدوان. ومع ذلك، بات من الواضح أن هذا الارتباط قد تراجع في السنوات الأخيرة، وتحول الحماس العارم إلى صمت قاتل، أو في أفضل الأحوال، تفاعل خافت لا يتجاوز التغريدات والمنشورات الافتراضية. كيف حدث هذا التراجع؟ وهل هو انعكاس لواقع أعمق؟ وكيف يمكن أن نستعيد ذلك الزخم الذي طالما كان وقودًا للقضية الفلسطينية؟
هذا التراجع لم يأتِ من فراغ. لقد ورثنا إرثًا ثقيلًا من التفكك والتشرذم الذي فرضته عقود من الاستعمار والمؤامرات الدولية لتفكيك الأمة. هذه الحقبة لم تترك فقط حدودًا مصطنعة تفصل بين شعوب الأمة، بل زرعت أيضًا بذور الشك واللامبالاة التي جعلت من الصعب تشكيل موقف وحدوي تجاه أي قضية كبرى. الاستعمار لم يكتفِ بتقسيم الأراضي، بل نجح في تشويه العقول وإعادة توجيه أولويات الشعوب بعيدًا عن قضاياها المصيرية. وعلى الرغم من كل ذلك، يمكن للأمة أن تتجاوز هذا الإرث الثقيل إذا ما استلهمت من تجاربها وتجارب الأمم الأخرى طرقًا عملية لاستعادة زخمها ودورها القيادي.
على الصعيد الإعلامي، نخوض معركة غير متكافئة. الإعلام العربي والإسلامي يعاني من نقص الإمكانيات وضعف التخطيط الاستراتيجي مقارنة بآلة الإعلام العالمي التي تسيطر على السرديات وتوجه الرأي العام. بينما يعمل الإعلام الدولي على ترسيخ روايات تخدم الاحتلال وتشوّه النضال الفلسطيني، تكتفي معظم المنصات المحلية بتغطية سطحية تفتقر إلى العمق والتأثير. ومع ذلك، أثبتت بعض التجارب نجاح الإعلام الرقمي في استعادة الزخم حول القضية، مثل حملة “Save Sheikh Jarrah” التي جمعت دعمًا عالميًا واسعًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يوضح أن الإعلام الرقمي يمكن أن يصبح أداة فعّالة إذا استُثمر بذكاء واحترافية.
من ناحية الفكر والتربية، فإن تغييب القضية الفلسطينية عن المناهج الدراسية لعب دورًا كبيرًا في تراجع الوعي الجمعي. أجيال جديدة تنشأ دون إدراك حقيقي لجذور القضية وأهميتها الدينية والثقافية. في الماضي، كانت القيم الوطنية والقومية تُغرس في عقول الناشئة، مما خلق أجيالًا مستعدة للتضحية من أجل قضاياها. اليوم، نحتاج إلى إعادة النظر في المناهج التعليمية، كما فعلت ماليزيا عندما أعادت صياغة نظامها التعليمي لتعزيز الهوية الوطنية والقيم الإسلامية. إضافة إلى ذلك، يمكن للأسرة أن تلعب دورًا محوريًا في بناء وعي الأجيال الجديدة من خلال النقاشات المنزلية والأنشطة التي تعزز الانتماء والارتباط بالقضية.
البعد الإيماني والنفسي لا يقل أهمية. في أزمنة مضت، كانت روح العطاء والعمل من أجل القضايا العادلة جزءًا لا يتجزأ من حياة المسلمين. الوقف الإسلامي كان أحد أعظم أدوات دعم القضايا المصيرية في التاريخ الإسلامي، حيث مول التعليم والصحة وحتى الدفاع عن الأمة. يمكن اليوم إحياء هذه التجربة من خلال توجيه أموال الوقف لدعم مشاريع مستدامة تخدم القضية الفلسطينية، مثل تمويل المدارس والمستشفيات في غزة والقدس. ومن ناحية أخرى، فإن الإرهاق النفسي الناتج عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية يضعف من قدرة الشعوب على التفاعل مع القضايا الكبرى. لتعزيز الأمل، يمكن إطلاق مبادرات صغيرة ومؤثرة مثل قوافل الإغاثة وحملات التبرعات التي أثبتت فعاليتها في خلق تأثير إيجابي ملموس.
لا يمكن إغفال دور الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. هذه الجاليات، التي تتمتع بحرية أكبر في التعبير، أثبتت قدرتها على التأثير في الرأي العام العالمي من خلال مبادرات مثل حركة BDS التي نجحت في فرض ضغوط اقتصادية وسياسية على الاحتلال. يمكن تعزيز هذا الدور من خلال شراكات مع مؤسسات دولية وحملات إعلامية متكاملة تعيد تسليط الضوء على القضية من منظور عالمي قائم على العدالة وحقوق الإنسان.
الثقافة والفنون تمثل بعدًا آخر مهملًا لكنه ضروري. الأدب والفن الفلسطيني كانا دائمًا صوتًا قويًا يعكس نضال الشعب، لكن هذا الصوت خفت في السنوات الأخيرة. استلهام أعمال أدبية مثل روايات غسان كنفاني وتحويلها إلى أفلام ومسلسلات عالمية يمكن أن يعيد إحياء هذا الدور. إضافة إلى ذلك، دعم الإنتاج الفني الوطني، مثل الأغاني والأفلام الوثائقية، يمكن أن يساهم في ترسيخ القضية في الوجدان الشعبي.
أخيرًا، لا بد من تعزيز الوعي القانوني والعمل عبر القنوات القانونية لملاحقة الاحتلال في المحافل الدولية. تجارب مثل محاكمة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تظهر أن العمل القانوني المدعوم بجهود إعلامية وشعبية يمكن أن يحقق تأثيرًا ملموسًا. كما أن دعم المؤسسات الحقوقية العاملة على توثيق الانتهاكات الإسرائيلية يُعدّ أداة قوية لتحدي الرواية الصهيونية عالميًا.
إن ما نشهده اليوم من تراجع في التفاعل مع قضية الأقصى وغزة ليس سوى انعكاس لأزمة أعمق أصابت الأمة، لكنها ليست نهاية المطاف. من الإعلام إلى التربية، ومن الفنون إلى الوقف، هناك مجالات شتى يمكن أن تصبح منارات للأمل والعمل. الأمة التي أخرجت للعالم نماذج مثل صلاح الدين الأيوبي وقادة المقاومة في الجزائر، قادرة على إحداث التغيير من جديد، شرط أن يبدأ كل منا بدوره الفردي والجماعي. النصر ليس حلمًا بعيد المنال، بل هو ثمرة وعي وعمل مشترك، وما نزرعه اليوم سيؤتي ثماره غدًا بإذن الله.