سياسة
عمري خمسة وثلاثون عامًا، وهو ذاته عمر الحكاية التي -الآن تحديدًا، في أحلك لحظات هذا الوطن المسكين وأحطّها-كُتب لها أن تنتصر، لا أن تخلد فقط، كما مصير حكايات المظلومين من أصحاب الحق والنضال.
في اللقاء الأخير قبل أشهر بجدّي (لا نلتقي إلا نادرًا لأسباب معقّدة) كان وأمي يتضاحكون على مواقف في طفولتي وصباي المبكّر في مواجهة قوّات مختلفة من “زوّار الفجر” القسريّين، لا أذكرها إلا لِمامًا وتتوه منّي تفصيلاتها، في أحدها: اقتحموا بيتنا الصغير، وخصتُ مواجهةً معهم، مازالت العائلة تتندّر عليها وأثرها الحاسم بعد انتصاري عليهم وإجبارهم على ما أردته وقتها (كان صراعًا عبثيًّا في ظاهره وربّما مضحك: أن يضغطوا جرس الباب لأفتح، وأن يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول).
لا أذكر التفاصيل، وبنيتُ التنظيرة حول هذه الصراعات بعد استعادتها مع حكاوي الأم والجدّ، خلّق ذهني تبريرات سلوكية وفلسفتها كعادته في التعامل مع الأشياء التي يستغربها، لكن بقيَ سؤالٌ ملحّ: ما الذي دفعني لهكذا تصرّف أمام غِلاظٍ شِداد سودُ اللباس والقلوب وفي يدهم الأسلحة وعلى ألسنتهم أقبح الشتائم كما على وجوههم أقبح الخِلق؟
هل أورَثني أبي قضاياه عامِدًا بمكتبته التي كانت أوّل ما تفتّحت عليه عيناي، أو بغزير أحاديثه عن الظلم وفلسطين والفقر والاستبداد، أو حتى بالملصقات والمنشورات التي ملأت وعيي وذاكرتي من قديم حول صراعات الإنسان من سراييڤو إلى الصومال ومن كشمير إلى لبنان وأحاديث سمره هو وصحبه في صالون بيتنا الصغير؟ أم أننا نرِث ما “وجدنا عليه آباءنا” دون اختيار، هكذا كما نجدهم نكون، ثمّ نتمرّد إلى النقيض في مرحلة انتفاض لا واع بالضرورة، ثم نعودُ ثانيةً لما كنّاه مصادفةً (ما كانوا هم فأصبحناه) أي أننا ندور في ذات الفلك تأكيدًا أو نفيًا، اتّباعًا أو صراعًا إلى أن نموت، ونترك لأولادنا إرثًا تصادف أنّه ما نحن عليه لحظة تشكّل وعيهم …وهكذا إلى ما لا نهاية.
هل يتقرر الإرث قبل وجود الوارث بعقود، أم أنّه انتقالٌ حرٌّ بين الوارث والموروث؟ وإن كان رفض الإرث ممكنًا، ألا يجعله ذلك جزءًا من حياتنا ولو على نقيضه؟
لجيلين أو ثلاثة، كنتُ محاطًا بهؤلاء الذين اختاروا طريقًا مغايرًا عن السائد من كلّ تيّار، وللتمايز ثمنه الذي يتحدد على قدر مناقضته للواقع، وكلّما ابتعدت عمّا أُريد لك أن تكون واقتربت مما تريده أنت لنفسك، اتّساقًا معها ومع ما تعتقد فيه بعد اجتهاد، كلّما ترسّم قدر طردك من الحكاية السائدة، أو من المحيط تأثيرًا وتأثّرًا، أو من الوجود مطلقًا.
أجداد وآباء ورفاق (جدّات وأمهات ورفيقات) حولي منذ لحظتي الأولى، فيما قبل الوعي، أشاهدهم وأسمعهم وأعايشهم، وأنبهر؛ لكنّه انبهار غير المصدّق أنّ حياةً كهذه ممكنة، وحكايات كهذه قابلة للحدوث في غير حواديت ما قبل النوم (رغم كون حواديت من هذا النوع ستجلب الكوابيس لا شك)
يصعب أن نجسّد انحيازاتنا النظريّة حياتيًّا، يصعب جدًا، وأولئك الذين نجحوا في هذا الاختبار أمام ذواتهم، ملهمون، لكنّهم في الوقت ذاته، توازيًا لا نتابعه بالضرورة وقد لا نعرف عنه شيئًا، يعانون، وقد أتواقح لأقول إن حياتهم تاريخٌ من المعاناة “في كلّ بطولة وجهٌ من المأساة، في كلّ مأساة وجهٌ من البطولة” ومازال أبي برهانُ ذلك الأبديّ؛ إذ ما عرفته إلا حاملاً للهمّ (همّ الناس، والبلاد، والاحتلال، هم المستقبل والواقع، هم الوجود الإنساني كلّه ربّما) رغم تلكّكه ليضحك ويبذله جهدًا خارقًا كي لا يحمّل سواه ما يحمله هو، لكنّ التساؤل القديم مازال يتجدد: هل اختار ذلك ؟ وهل أورثني إياه عمدًا؟
هذه تساؤلات فجّرها هذا الاحتفاء البهيج/الأليم بفيلم “أبو زعبل٨٩” للعزيز بسّام مرتضى، الذي وبعد خمسة وثلاثين عامًا من وقوع الحكاية، وكان طفلاً في الخامسة عندما زار والده المثقّف اليساري في معتقل أبو زعبل الشهير، والذي دخله بعد تضامن مع العمّال ليُعاقب معهم اعتقالاً وتعذيبًا، وترث الأسرة أثر التجربة صمودًا وارتباكًا، ويرث ابنه السينمائي صاحب الموقف، انحيازًا مبادئيًّا، وحِملاً ثقيلاً ليروي ما جرى، ليتخفف، ليفكّك ويفهم ويتصالح وربّما يتعافى، ولحسن حظّنا كانت رحلته تلك على غير مُعتاد صراخ الضحايا وأنينهم، لا انتقامًا ولا انكسارًا.. إنما فنًّا لا يُخلّد الحكاية وأصحابها فقط.. إنّما ينتصر لهم وينصرهم.
طوابير الراغبين في المشاهدة، ومئات المنشورات والمقالات والتعليقات والتبريكات، لم تكن تحتفي ببسام وفيلمه فقط، إنّما كانوا يُطمئنون أنفسهم وكلّ صاحب قضيّة، خاصّةً في تلك اللحظة البائسة من عمر الوطن والكوكب، كأنما كان الكلّ يقول للكلّ: نحن قادرون على الانتصار، ولو بعد حين.