سياسة
مثّل قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق مجرمَي الحرب رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت٬ حدثاً غير مسبوق ولا يمكن تجاهله٬ على الأقل بتاريخ دولة الاحتلال والمشروع الصهيوني منذ نشأته وتبنيه من القوى الغربية٬ فهو بيان سياسي جاء في لحظة فارقة من الصراع٬ ويعكس طيفاً هاماً من التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي.
يلقي القرار بظلال ثقيلة على “إسرائيل” داخلياً وخارجياً، بدءاً من تهديده بإحداث تغييرات عميقة في طبيعة نظام دولة الاحتلال السياسي٬ وكذلك نظامها الاقتصادي٬ كخفض تصنيفها الائتماني وتضرر بيئتها الاستثمارية٬ وحتى عزلها ونبذها دولياً٬ بوصفها دولة متهمة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
“إسرائيل” التي تربّت مدللة في الحضن الغربي وكانت لا تمسّ واستثناءًا على الدوام من أي عقوبة حقيقية لضمان تفوقها العسكري والسياسي على الفلسطينيين والعرب، تواجه الآن تحدياً غير مسبوق لصورتها كدولة “ديمقراطية”٬ وهي السلعة الرابحة التي لطالما روجتها للعالم شرقاً وغرباً.
ويواجه الغرب الآن٬ الذي يصنف “إسرائيل” كـ”دولة ديمقراطية”، التناقض بين شعاراته الحقوقية وسكوته عن جرائم الاحتلال٬ حيث يقوض اتهام قادة الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية٬ السردية الإسرائيلية التقليدية التي تسعى لتبرير العمليات العسكرية والحروب والعمليات العسكرية٬ بأنها “حق مشروع” و”دفاع عن النفس”، مما يهدد بتآكل الشرعية الدولية لـ”إسرائيل”.
في الوقت نفسه٬ فإن الدول المتعاونة مع المحكمة الجنائية قد تواجه ضغوطًا لتطبيق قرارات الاعتقال، مما يضعف التحركات الدبلوماسية الإسرائيلية ويضيق مساحات المناورة أمامها.
الاقتصاد الإسرائيلي أيضاً ليس بمعزل عن تداعيات هذا القرار. المستثمرون الأجانب، الذين كان ينظرون إلى “إسرائيل” كبيئة آمنة ومستقرة وشريك تجاري موثوق، قد يُعيدون النظر في استثماراتهم وسط المخاوف من وقوع مزيد من العقوبات أو اتساع العزلة الدبلوماسية والاقتصادية. فأي بيئة استثمارية٬ يعد الاستقرار السياسي شرطاً أساسياً لجذب رؤوس الأموال إليها، ويبدو أن القرار يضيف عبئاً جديداً على الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني بالفعل من تباطؤ في النمو وتخفيض ائتماني متكرر.
ويعتمد الاقتصاد الإسرائيلي على سمعة “إسرائيل” في جلب الاستثمارات الخارجية٬ خصيصاً في قطاعات حساسة مثل قطاع التكنولوجيا وبناء شركات التقنية الناشئة (الستارت أب)، والذي تعرض لضربة كبيرة منذ السابع من أكتوبر 2023. ومع تصاعد المخاطر الأمنية وتزايد العزلة٬ قد تواجه “إسرائيل” تحديات أكبر في الحفاظ على علاقاتها التجارية مع شركاء رئيسيين في أوروبا وآسيا٬ بشكل لم تكن تتخيل حدوثه من قبل.
في الوقت نفسه٬ ستُمنح الرواية الفلسطينية دفعة سياسية وقانونية حول العالم، مما قد يخلق ضغوطًا أكبر على “إسرائيل” ككيان محتل وغير شرعي. وهذا بدوره سيعزز شرعية المقاومة الفلسطينية، وقد يوفر أداة قانونية وسياسية في مواجهة الاحتلال. كما يُشجع الدول الأخرى على اتخاذ مواقف أكثر صرامة ضد السياسات الإسرائيلية.
لا يمثل قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال ضد قادة الاحتلال تحدياً فقط للقيادة الإسرائيلية٬ بل قد يحمل تداعيات أوسع على النظام الدولي نفسه الذي يقف أمام اختبار كبير٬ وقد يكون هذا القرار بداية النهاية لمرحلة “الاستثناء الإسرائيلي” التي حمت تل أبيب لعقود من الزمن.
وبينما لا تزال دولة الاحتلال قائمة على حبل الدعم الأمريكي والغربي٬ فإن تغيّر الرأي العام العالمي وتزايد الانتقادات يجعلها في موقف دفاعي غير مسبوق. وفي النهاية٬ كما نعلم جميعاً٬ فإن قرار المحكمة الجنائية الدولية قد لا يغير الواقع على الأرض بين ليلة وضحاها، لكنه بالتأكيد يؤسس لمرحلة جديدة في مستقبل المشروع الصهيوني وحتى النظام الدولي الذي يدعمه.