تجارب

ماتت بقلبٍ متوجّع!

نوفمبر 22, 2024

ماتت بقلبٍ متوجّع!


أفكّرُ بوجهٍ آخر للموت في غزّة، بعيداً عن الحرق والتشظّي تحت نيران الصواريخ، والرصاص المتفجّر، وقريباً من القلب حينَ يتعب! لقد ماتت فاطمة وقلبها متعبٌ جدّاً. عاشت أكثر من 400 يوم في شمال قطاع غزّة، شهدت كلّ أشكال النزوح والمجاعات، شربت الشاي كوجبة أساسية ليومٍ طويل، ورأت أطفالها المصابين ينزفون دماً أمام عينيها.


هل تشبهُ فاطمة غزّة ؟ وهل قلبُ غزّة متعب؟ إيه كم يشبهان بعضهما البعض، أتذكر الإعلامية سعاد سكيك أيضاً ماتت فجأة بعد أن توقّف قلبها، سعاد المرفّهة الجميلة لم تحتمل كلّ هذا البطش على قلبها الرقيق فتوقّف ! الذين تتوقف قلوبهم فجأة، هل يتوجعون؟ أم أنّهم لا يشعرون بالوجع لأنّهم وصلوا إلى منتهاه بعد أن شهدوا أسوأ أنواع الإجرام بحقّهم وحقّ عائلاتهم وبيوتهم.


أريد أن أبكي كثيراً، لم أحظَ بفرصةٍ جيّدة لبكاءٍ طويل منذ أكثر من 400 يوم، أحتاج أن أبكي دون أن يقاطعني أحد، أن أصرخ أيضاً في كل الجنازات والمقابر الجماعية، أحتاج أن ألعن هذا العالم الذي يشارك بإبادتنا دون أن يرفّ له رمش مليونَ مرّة.


وأحتاجُ أن أخبر فاطمة الكريري في قبرها، لا وجع الآن يا فاطمة، قد انتهى كل ذلك الوجع الكبير، أنت الآن بخيرٍ كثير ومطلق، وأنْ أمرّ على سعاد فأهمس بها يليق بقلبك السكينة المطلقة فلا يحمل وجعاً أكبر من طاقته، وأن أقول لقلبي استمر في وجعك، فلا وجه آخر لغزّة، لا أستطيع أن أرى في وجهها إلا وجعاً عظيماً متزايداً.


هل ارتاحَ قلبك الآن يا فاطمة؟


أعلم ستقولين لي نعم، لكنني أفكّر كم يلزمنا من الوجع لنلج إلى السكينة الأبديّة؟


لكن مَنْ يريح قلب غزّة، وماذا يلزم العالم لكي يشعرَ به، ولماذا تخلّى الجميع عنّا؟ ولماذا تركونا نموت بقلوبنا المتعبة؟


وهل تسمع الخيول النازفة صهيلنا المرتعش العالي؟ لقد مشت قلوبنا على النار والبارود، لقد فقهت معنى الوحدة والخذلان، وشربت من العطش، وأكلت من الجوع، وتصبّرت بدموعها التي جفّت، ثم ماتت وفي شرايينها آلاف اللعنات على الساكتين ونحن نُذبَح على يد الدراكولا الصهيوني دون أيِّ رحمة.


أفكّر إذا عشت، كيف سأعيش بقلبٍ عاش في الإبادة لأكثر من عام!


سأخاف على كل شخص لا يجدُ بيتاً في العالم، سأبكي مع كلّ طفل يضعونه في دار الأيتام، سأنتحب مع كل أمّ تودّع طفلاً لها، سأخشع مع كلّ قلبٍ أبِ لا يجد قوت يومه لكي يطعمَ أطفاله، وسيملؤني الرعب من أشخاصٍ يلقون الطعام في القمامة، ومن رغيف خبزٍ ملقىَ في الشارع، ومن أزواجٍ لا يفهمون كيف يدللون زوجاتهن، ومن أمهاتٍ يضربن أبناءهن، سيملؤني الحزن حين أجد طفلاً مشرّداً في الشارع يبيع المناديل الورقية، وعلى أرملة لا تستطيع أن تطعم أطفالها، وعلى رجل فقير يشتهي قطعة لحم، وعلى حمارٍ يحمل على ظهره أكثر من طاقته، وعلى قطّةٍ هزيلة تموت وحدها في منتصف الطريق، وعلى نباح كلبٍ طيلة الليل بلا مأوى وبلا طعام، سأخاف على كلّ هؤلاء كثيراً.


لأنّ قلبي الغزّاوي قد عاش كلّ معاناة يمكن أن يتخيلها العقل، لقد رأيت كل صور الألم، وكل امتداداته، وكل أصواته، سمعت كل آهاته، وقرأت كل كتبه التي كُتِبَت والتي لم تُكتَب بعد، فما أعظم ألمك يا قلبي، لقد تألمت باتساع الأرض وأنت صغير بحجم قبضة كفّي، ثمّ يسألوننا لم تتوقف قلوبكم فجأة؟! يا الله تحنّن، فلا طاقة لنا بكلّ هذا الألم!


شارك

مقالات ذات صلة