آراء
صبيحة يومٍ غائم، استيقظتُ باكرًا على غير رغبة، وتوجّهتُ من بيتي في لاظوغلي باتّجاه مكتب شركة الإنتاج في العجوزة-كنت مراسلاً لإحدى القنوات- لأنهي تقريرًا صوّرناه في الليلة السابقة، عابرًا بمحمّد محمود، وعلى يميني تصطفُّ سيارات الشرطة والبلديّة ومدرّعات الأمن المركزي، على رأس موكبهم الأسود ذاك كانت سيّارات ملاكي فيها مدير أمن القاهرة ، وحكمدار العاصمة وبعض القيادات الأخرى التي أعرفها وتعرفني، نظرنا لبعضنا باستغراب ومحاولات فهم، كأنّما يقولُ كلٌّ منّا للآخر : ما الذي جاء بك لهنا في هذه الساعة؟
توجّهتُ إلى من استيقظ من المصابين المعتصمين بالميدان، أُسلّم عليهم وأسألهم عن حاجاتهم، اتّصلتُ برفيقٍ كان يبيتُ في بيتي وطلبتُ منه أن يُحضر بطاطين وخيمة كبيرة وعدّة أشياء أخرى (كانت الغرفة الرئيسة ببيتي مخزنًا للإعاشة والدواء والخيام والبطاطين)، وبينما نتحادثُ عن الخذلان والبرد والخوف من القادم والإصرار على الحقّ، وجدنا أنفسنا مُحاصرين بعشرات، ثمّ مئات من الجنود السّود وقادتهم بعصيّهم ودروعهم وأسلحتهم، كنتُ الوحيد الذي يقفُ على قدمين دون إصابات معيقة، وكان العددُ إجمالاً لايتجاوزُ عشرين شخصًا في بضع خيام متناثرات ومرتجلات من مشمّع وعصيّ وكراتين هرّأها البردُ والهواء وشيءٌ من مطر، تمامًا كما هرّأ اللائذين بها فراغُ الميدان من حولهم، وتركهم وحيدين في المواجهة.
كان عمّال البلديّة والجنود ينزعون الخيام ويمزّقونها، والبقيّة يحوّطوننا، حاولوا عزلي “مالكش دعوة انت يا دومة” بكردون مستقل شلّ حركتي تمامًا دون اعتداء لتحييدي، لم تكن هناك تعليمات بالاعتداء عليّ، فقط التعليمات تخصّ المعتصمين، لكن بعد دقائق من فشل التحييد ضُربتُ معهم، وأنا أحاول الدّفاع عنهم، أجريت عشرات المكالمات ونشرتُ أدعوا الجميع للنزول للميدان، ودخلتُ هاتفيًّا مع برامج صباحيّة أطلق ذات النداء، إلى أن تمّ اعتقالي بصحبة مصوّرين وصحفيين وصلوا لتوّهم إلى الميدان وبدءوا التصوير، وحملتنا مدرّعة شرطة إلى معسكر الأمن المركزي بالدرّاسة.
كنتُ راضيًا وأنا في الطريق بعد الضرب والاعتداء والاعتقال “عرِفَ النّاس وبدءوا الوصول؛ وجودي لم يعد مهمًّا.. إذًا: لا بأس”، ورغم ذلك استطعت التواصل عبر جهاز طواريء كنتُ أُخبّئه وأبلغتُ بمكاننا وبيانات من معي من المعتقلين، وهو ما تسبب في إطلاق سراحنا بعد ساعات، حاولوا إطلاق سراحي وحدي في البداية بناءًا على “تعليمات” كما أخبرني قائد المعسكر، لكنّي رفضت “جينا سوا وهنمشي سوا” ونمتُ على كنبة كانت في مكان احتجازنا، حتى أخرجونا جميعًا.
عدتُ للميدان، وكان أوّل ما قابلني -وبقيَ محفورًا في ذهني حتى اللحظة- مدرّعة متفحّمة على مشارف شارع محمد محمود، وحولها الآلاف من الثوّار، استبدلوا النور الذي عبّأ الميدان بسواد العسكر الذي سبقه ولم يبقَ إلا قليلاً.
انخرطتُ وسطهم وأصبتُ في هذا اليوم كما لم أُصب في حياتي كلّها –عددًا- حتى أن طبيبة شابّة جميلة وحازمة في المستشفى الميداني عندما عدتُ لها للمرة الثالثة، طلبت من الرفاق أن يربطوني حتى لا أعود للاشتباكات، لكنّ الرفاق كعادتهم معي تواطئوا وعدنا سويًّا إلى المواجهة، لكننا لم نعد بعدُ، وربّما لن نعود أبدًا.
بعدها بنحو عشر سنين، في محاكمة هزليّة انتقاميّة كعادة محاكماتنا، وقف الشهود الرسميّون من قادة العسكر والشرطة لإدانتي قال أحدهم (مدير أمن القاهرة وقت الأحداث) للقاضي: كلّ الصور الموجودة من ظهره، لأنه كان في الصف الأول في الاعتداء على القوّات. ظللتُ أردّد هذه الجملة على نفسي راضيًا. وأستعيدُ الصورَ التي عرضوها في المحكمة كدليل إدانة، وظلّت مصدر سند لي: لم أتخاذل ولو لم ننتصر؛ فعلتُ ما يليق.
لماذا أتذكّرُ هذا الآن؟ لا أعرف، لعلّها مواضع الإصابات تنغزني في ذات اليوم من كلّ عام كي لا أنسى، كي لا أُسامح:
لم ينتصر الدم على السيف، لكنّه خلّد الحكاية، وأبقاها إلى ما يتجاوز عمر السيف وحملته؛ أليس هذا ما يضمن على الأقلّ فرصةً أخرى للمحاولة، لاستعادة الحقّ ولانتصار الدم هذه المرّة؟، ليس لكونه دمًا فحسب، إنّما حقّ ونضال وإصرار على الفعل بما يتجاوز الهزيمة الأولى.