مدونات
الكاتب: كرم الدين حسين
الرياضة تاريخيًا تمثّل أداةً للتقريب بين الشعوب، حيث تنبني على قيم الأخلاق والروح الرياضية، وتسمح بتجاوز الحدود والخلافات من أجل التنافس النبيل. لطالما وُصفت الرياضة بأنها أرض محايدة، هدفها تعزيز السلام وتشجيع المحبة بين المتنافسين على اختلاف انتماءاتهم. إلا أنه، في العقود الأخيرة، أصبحت الرياضة مساحة تتدخل فيها السياسة وتتنازع فيها القوى، فتحولت من أرض للوحدة والسلام إلى ساحةٍ للتأثير والنفوذ، حيث تُستغلّ لتحقيق أهداف سياسية بعيدة عن روح الرياضة.
ازدواجية المعايير في التعامل مع روسيا وإسرائيل
برزت هذه الإشكالية بشكل واضح مع القرار الذي اتخذته الاتحادات الرياضية الدولية بعد الحرب الروسية الأوكرانية. ففي خطوة غير مسبوقة، تم تعليق عضوية المنتخبات والأندية الروسية في كافة المسابقات الدولية، ومنعها من المشاركة في البطولات القارية والعالمية. حتى أن بعض الرياضات منعت اللاعبين الروس من المشاركة بصفة فردية، إلا في استثناءات قليلة، حيث سمح لهم بالمشاركة تحت علم محايد كما هو الحال في الألعاب الأولمبية. كان من بين الحجج المعلنة لهذه القرارات “ضمان السلام”، حيث اعتبرت الجهات الداعمة لهذه الخطوات أن منع الفرق الروسية يشكل وسيلة ضغط لإيقاف الحرب وتحقيق الاستقرار. بيد أن هذه القرارات أثارت نقاشًا واسعًا حول ازدواجية المعايير، فبينما كانت الحرب الروسية الأوكرانية سببًا واضحًا لإقصاء روسيا من المنافسات الرياضية، نجد أن إسرائيل لا تزال تشارك بشكل كامل في مختلف المسابقات الرياضية، سواء من خلال منتخباتها الوطنية أو أنديتها.
هذا على الرغم من العدوان الذي شنته على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، والذي تسبب في قتل وجرح مئات الأطفال والنساء، واستمرّ بعد ذلك بتوسيع الهجمات إلى جنوب لبنان، ما أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين آخرين. السياسة وراء الرياضة: أداة للضغط أم وسيلة للانتقام؟ يبدو أن الرياضة لم تعد بعيدة عن تأثيرات السياسة، بل أصبحت أداةً للضغط السياسي على الدول، وذلك حسب مصالح القوى المؤثرة في الساحة الدولية. وقد أثار هذا التناقض في التعامل مع روسيا وإسرائيل تساؤلات حول مدى صدق النوايا المعلنة بشأن فصل الرياضة عن السياسة.
فبينما يُستخدم مبدأ “الرياضة من أجل السلام” كذريعة لتبرير معاقبة روسيا، نجد أن هذا المبدأ يتم التغاضي عنه تمامًا فيما يتعلق بإسرائيل، مما يظهر أن العقوبات الرياضية تُستخدم كغطاء لهدف سياسي أساسي وهو الضغط والانتقام، وليس لتحقيق السلام. وبالنظر إلى أن القانون الدولي يحظر الاعتداء على المدنيين ويشدد على حماية الأطفال والنساء خلال النزاعات المسلحة، يبدو أن ازدواجية المعايير هذه تسلط الضوء على هيمنة السياسة في اتخاذ قرارات العقوبات الرياضية. فقد تم إبعاد روسيا بحجة “العدوان”، بينما يُسمح لإسرائيل بالاستمرار في المشاركة الرياضية رغم انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
هذا التناقض يضع الاتحادات الرياضية في موضع الشك، ويظهر كيف أن الرياضة باتت ميدانًا يخضع لمصالح القوى الكبرى التي تتحكم في قراراتها. الأثر النفسي والاجتماعي على الشعوب إن إقصاء الفرق واللاعبين بسبب جنسياتهم ليس له تأثيرات رياضية فحسب، بل له أيضًا أبعاد نفسية واجتماعية عميقة على الشعوب. فقد أدى إقصاء روسيا من المسابقات الرياضية إلى إحباط واسع بين الرياضيين والجماهير الروسية، الذين وجدوا أنفسهم مستبعدين من الساحة العالمية، ليس بسبب أدائهم الرياضي بل نتيجة قرارات سياسية تتخذ باسم “السلام”.
من جانب آخر، السماح لإسرائيل بالمشاركة الرياضية رغم سياستها العدوانية يترك أثرًا كبيرًا على الفلسطينيين والشعوب العربية، التي ترى في هذا استمرارًا للتعامل بتمييز وازدواجية، حيث تُفرض المعايير بحزم على بعض الدول ويُغض الطرف عنها في حالات أخرى.
تأثير ازدواجية المعايير على مصداقية الرياضة
إن الاستمرار في هذه الازدواجية قد يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات الرياضية الدولية، حيث يشعر البعض بأن الرياضة باتت لعبة في يد القوى السياسية الكبرى، تُستخدم لمعاقبة الدول غير المرغوب فيها دوليًا، وتُغضّ الطرف عن الدول الحليفة مهما ارتكبت من تجاوزات.
فعندما يتم منع الرياضيين من تمثيل بلادهم بناءً على أحداث سياسية، وتُستثنى دول أخرى من هذه العقوبات، يصبح الحديث عن روح رياضية أو قيم أخلاقية في عالم الرياضة مجرد شعارات فارغة. وقد بدأت هذه الازدواجية بالفعل بإثارة جدل واسع بين جمهور المتابعين والمحللين، حيث يعبّر الكثيرون عن استيائهم من استغلال الرياضة لتحقيق أجندات سياسية.
ضرورة العودة للروح الرياضية الحقيقية
من الواضح أن الرياضة، التي وُجدت لتكون مساحة للسلام والتنافس الشريف، أصبحت ميدانًا آخر تتصارع فيه القوى السياسية لتحقيق أهدافها. فالتعامل بمعايير مزدوجة يظهر مدى الخلل الذي أصاب مفهوم الرياضة كأداة محايدة للتقارب بين الشعوب. إذا كانت الرياضة فعلًا ساحة للسلام والأخلاق، فإنه يجب على المؤسسات الرياضية الدولية العمل بجدّية لتحقيق هذا الهدف، دون الانجرار وراء ضغوط القوى السياسية، وأن تلتزم بمبدأ المساواة في التعامل مع جميع الدول والفرق.
عودة الرياضة إلى مسارها الصحيح تتطلب تبني مواقف متوازنة تضمن عدم استغلالها كأداة لتحقيق مصالح سياسية. من هنا، فإن المسؤولية تقع على عاتق الاتحادات الرياضية والمنظمات الدولية لإعادة إحياء الروح الرياضية، وتعزيز قيم النزاهة والمساواة بعيدًا عن التأثيرات السياسية.