سياسة
ربما هو ذلك الغرور المتولد من التجبر، وذلك العمى المتولد من الوهم، وذلك الانتفاخ المتولد من القوة المزيفة، هو ما دفع “الإسرائيليين” إلى اعتقاد أنهم يمتلكون العالم، وأن الاستعراض على أطفال غزة ونسائها ورمالها وجدرانها يعني أن ذلك نابع من استحقاق، وأن تلك العضلات التي تكفيهم لدفع امرأة إلى حفرة، أو منع طفل من الطعام والشراب، أو تعذيب أسير مغمى العينين، ستكفيهم كذلك ليفعلوا ما شاءوا أينما شاءوا، وأن يعربدوا في البلاد كأنهم الطفل المدلل في كل مكان، ويكأن الدنيا استحالت إلى “تل أبيب” كبيرة، وكأن جيش الاحتلال الإسرائيلي واصل إلى كل نقطة، روحًا لا تفارقهم، وملاكًا حارسًا يحفظهم من كل عين وأيدٍ.
لكن الحقيقة ما رأوا لا ما سمعوا، وما شعروا به لا ما تخيلوا، وما أحسوا به جليا من فوقهم ومن أسفل منهم، لا ما خدعهم به كيانهم المارق، فربما ظنوا أمستردام رام الله، ومدرجات الاستاد درجَ باب العامود، حيث يقف الجيش المجنزر المخنزر بمدرعاته ومصفحاته يمارس هوايته المفضلة منذ ثمانين عاما، في البغي والظلم والعدوان، لكنهم وجدوا هناك باب المغاربة من دون الأقصى، كأنه تحرر من سلطتهم في مكانه، ومن جمود اللحظة والموقع، وذهب إليهم على أرض محايدة، وقال حيّ على النزال، فانبرى أهله يرطمون رؤوس الأعادي في جدرانه، ويسحلون أجسامهم فوق بلاطه، ويركلون مؤخراتهم على أرصفته، ويجبرونهم على قول الحق وهم أهل باطل، وما أمرّ من نطق “فلسطين حرة” بألسنة محتليها، كأنهم يهدمون بأيديهم وأيدي المؤمنين عقودًا من محاولة إثبات ما هو عكس ذلك.
الرسالة الأولى والأبرز التي كان على الجميع استيعابها -الإسرائيليين وحكومتهم ومسؤوليهم والحكومات الغربية والأوروبيين الأصليين وكذلك المهاجرين المقيمين لديهم- أن السابع من أكتوبر كان فاصلا زمنيا لا تاريخا عاديا، وكان بحد ذاته مخلّقا لحوادث عظام لم نرَ أكثرها بعد، لا مجرد حدث جلل قائم بذاته وانتهى، وأن الطوفان الذي انطلق من بحر غزة لم يكن ليقف عند سواحل فلسطين وحدها.
وإنما سيبلغ الطوفان نهر الأمستل في أمستردام، وبحر الشمال في هولندا، ونهر السين في فرنسا، والبحر الأدرياتيكي في إيطاليا، وبحر المانش في بريطانيا، وما بين المحيطين في أوروبا، وما بين المحيطين في الأمريكتين، وما بين المحيطين في إفريقيا، وما بين المحيطين في آسيا، وما بين المضيقين في بلاد العرب والشرق، وما بين البحار والأنهر والخلجان في شتى بقاع الأرض، ذلك الطوفان الذي أكبر علاماته أنه بلا شط، ولا ساحل، فلا يهدأ حتى يثور، ولا يسكت حتى يهدر، ولن يبلع ماءه حتى يُقلع أمر السماء ويعم غيثها، فحينها لا ينوّم موجه إلا حيثما بدأ، على شاطئ بحر غزة!
وها هو الموج يصل إلى قلب أوروبا، فلا يجد الإسرائيليون ملاذًا إلا الارتماء في المياه لاتقاء الموج، وهم لا يعرفون أن مستراح الموج في أصل المياه، فتغمرهم، وتهلكهم، ويجدون من أوروبا ما لم يكونوا يحتسبون، فتلك البلاد بها أهلٌ لمن يقتلونهم هناك، وإن منعتهم الحواجز من رفع أعلام فلسطين في فلسطين، فإنها لن تمنعهم هنا، تهديدًا أو ترهيبًا، من أن ينقذوا علم قضيتهم الكبرى من التنكيس، ولن يقفوا مكتوفين حين يرون شذاذ الآفاق أنفسهم يحاولون إنزال الراية الفلسطينية هناك، ليكتشفوا فجأةً أن الدنيا كلها تلفظهم، والأرض تتقيؤهم، والجماهير تلاحقهم، فلا يجدون ملاذًا إلا في طائرات حربية تقلّهم إلى حيث احتلالهم، ثم ليجدوا في الأراضي المحتلة من البأس ما يمنعهم إلا سكنى الملاجئ، ثم يأتي الزمان لترميهم الملاجئ إلى الفراغ، يتيهون في الأرض تيههم الجديد.
رسالة أخرى هي أن ذلك “التعاطف” العالمي الأعمى قد ولَّى، وتلك الشعوب البيضاء لم تعد تميّز الرجل الأبيض تلقائيا كما كان من قبل، وإنما كانت تلك منحة الله، وفرصة التاريخ، بأن تعرّف غزة عن نفسها، فلا ينكر حقها إلا أنظمة محصاة العدد، واسعة النفوذ، وجهلة يتبعونهم، أما الأكثرية العظمى، مكانةً وعددًا، فقد باتت لنا، تعرف أن فلسطين فلسطين، وأن “إسرائيل” ليست إلا الوهم الذي احتل أرضا، ثم مصيره أن يكمل دورة حياة الوهم، بالانتهاء إلى التبدد والعدم، كما بدأ من العدم.
يحاول الاحتلال وإعلامه داخليا وخارجيا، ولوبيّاته المأجورة، وأذرعه المتطوعة، أن يمارس على العالم أكذوبته من جديد، فيعيد صياغة محرقته، ويقول إنني مظلوم، ويريد أن يكون السفاح القاتل مصاص الدماء الذي يفترس ضحاياه، ثم إذا صفعته الضحية يقول للعالم انظروا تلك آثار الصفعة على وجهي، أرأيتم توحشًا مثل هذا؟ لكنه ذلك الغبيّ يجهل أن كل شيء تغير، وأن قائدًا مر على الدنيا لاثنتين وستين سنة ثم مضى، أثبت بعقوده الستة كلمةً لا أثمن منها، بدلت كل شيء، يوم قال: “هل نرفع الراية البيضاء؟ نحن لن نرفع الراية البيضاء. هل مطلوب منا أمام العالم أن نُقتَل وأن نكون الضحية الطيبة حسنة الأخلاق التي تُقتَل دون أن يرتفع لها صوت؟! هذا غير ممكن بالمطلق”. فلم تعد تنطلي على أهل الأرض تلك المعادلة البائسة، وإنما أُجبر العالم على احترام الضحية القوية، ولم يكن ليعترف بأنها ضحية، لولا شراستها في مواجهة المعتدي عليها. حسنًا أيها العالم السافل، أخيرًا، لقد تغير كل شيء!
الرسالة التالية والأهم بيد الفاعلين الذين لم يقبلوا دور الضحية الطيبة، ولم يرضوا بتصوير العلم وهو يمزق، ثم التباكي على صفحات التواصل، هي أن الشعوب العربية والمسلمة والحرة في أصقاع العالم لا تقبل بذلك العجز المقيت، وأن تكبيل أيدينا في بلادنا عن كل فعل لا يعني أن الشعوب راضية بذلك، وإنما ذلك يعظم الثأر وينمي الانتقام ويغذّي الفرصة السانحة في أقرب وقت، وأن تلك الشعوب التي رأت لحمها ينهش، ودماءها تسكب، وفلذات أكبادها تخرج من الأحشاء، وعقولها الثمينة تتدلى من جوانب الرؤوس، وأجسادها تجوع وتظمأ ثم تسحق بين الركام، يكمن في داخلها طوفان كبير، وبراكين تثور، وحين تصنع الحدث، وتلمح الهوّة، وتلقى ثغرها، فلن تبقي ولن تذر، ذلك الطوفان الكبير بالخارج، مجرد صدى، لما يتكون من طوافين في الصدور!