سياسة

القتل بديلًا عن الإخلاء: دير ياسين جديدة في جباليا

نوفمبر 9, 2024

القتل بديلًا عن الإخلاء: دير ياسين جديدة في جباليا


من الطبيعي أن يحاول المجرم عندما يرتكب جرمه أن يزينه، أو على الأقل أن ينفي صلته به، لكن عندما يكون المجرم هو القاضي، فلا ضرورة لمحاولات الإخفاء، ولا فائدة منها، فلا جهة ستحاسبه، بل والأسوأ: لا أحد يهتم بالضحية. 


تسربت مطلع أغسطس الماضي، خطة إسرائيلية سُميت “خطة الجنرالات” وهي تقضي بتهجير قسري لـ ٢٠٠ ألف مواطن غزي يقيمون شمالي قطاع غزة في جباليا وبيت لاهيا، يتبعه حصار شامل على من يرفض الإجلاء، بما لا يعطي خيارًا للبقية، غير الاستسلام أو الموت جوعًا. 


الخطة أثارت انتقادات جمة، حتى داخل الأوساط الإسرائيلية، وتساؤلات عن فاعليتها، خصوصًا في ظل الانتقادات الدولية للوضع الإنساني المزري داخل غزة، وكذلك زيادة عدد الجبهات التي يعمل عليها الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر (٤ جبهات) دون حساب الجبهة اليمنية والعراقية أيضًا.


خفت الحديث عن الخطة “المسربة” وزاد الحديث عن الجبهة اللبنانية تزامنًا مع الإعلان عن نقل زخم العمليات إلى جنوبي لبنان، وتحويلها إلى الجبهة الأساسية بعد أن ظلت جبهة ثانوية لمدة ١١ شهرًا. ومع دخول إيران في الصورة بهجومها الصاروخي على إسرائيل مطلع أكتوبر الماضي، توجهت الأنظار بشكل كلي بعيدًا عن غزة ووضعها الإنساني. 


استغل الإسرائيليون هذا الالتفات، وقاموا بشن عملية واسعة شمالي غزة، برروها بأنها “لطرد مسلحي القسام”، بينما أعطى الشكل العملياتي لجيش الاحتلال صورة مقاربة للخطة التي تسربت تحت اسم “خطة الجنرالات” منذ ١٠ أسابيع.


نفى الجيش الإسرائيلي ذلك بداية، وقال إنها مجرد عملية عسكرية اعتيادية، وسارع نتنياهو يؤكد ذلك. فيما علق البيت الأبيض لاحقًا: “لا توجد لدينا معلومات أو أدلة على قيام إسرائيل بأعمال تخالف القانون الدولي في عمليتها الجارية شمالي غزة”.

 

القتل لا الإخلاء

 

بعد ٤ أسابيع من بداية العملية الإسرائيلية في جباليا، بات واضحًا أن ما تسرب من خطة الجنرالات، كان أكثر رحمة بالغزيين مما يفعله الجيش على الأرض. الخطة كانت تتحدث عن إخلاء للسكان ثم حصار لمن بقوا، لكن جيش الاحتلال في الواقع  فرض حصارًا وطوقًا حول جباليا تزامنًا مع هجمات جوية، مفضلًا إخلاء الجميع من خلال القتل. 


في أبريل عام ١٩٤٨، نفذت العصابات الصهيونية مجزرة في قرية دير ياسين الفلسطينية الواقعة غربي القدس، قتلوا قرابة ٢٥٠ من سكانها، ومثلوا بجثثهم.


كان للمذبحة هدفاً واحداً، وهو إرسال رسالة للقرى المجاورة أن من يرفض مغادرة قريته سيُذبح كما ذُبح أهالي دير ياسين.


إسرائيل حاولت التملص طوال الوقت من مسؤوليتها عن المذبحة، وبررت الهجوم في البداية أنه كان دفاعًا عن النفس، ولما لم يصدق هذه الكذبة أحد، عاقلًا كان أو مجنونًا، حاولوا تقليل أعداد الشهداء، قبل أن يبرروا أخيرًا أنها كانت من تنفيذ عصابات إسرائيلية ليست ضمن “الجيش النظامي الإسرائيلي”. ومن العجائب أن مناحم بيغن (رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا والحاصل على جائزة نوبل للسلام) كان من قادة الهجوم على القرية.


المحصلة أن الجيش الإسرائيلي لم يعترف قط أنه مسؤول عن مذبحة دير ياسين، (التهجير القسري لسكانها، والقتل لمن بقي منهم) الذين كان يبلغ عددهم طبقًا للتقديرات أقل من ٥٠٠ فلسطيني، لكنه وللمأساة، أقر للمرة الأولى في ٣٠ أكتوبر الماضي بتطبيقه خطة الجنرالات فيها، متبجحًا أو ساخرًا أنه ينفذها بما يتماشى مع القانون الدولي، لا حاجة للنفي لا حاجة للتبرير.


مأساة تتكرر


نموذج مذبحة دير ياسين يُطبق مجددًا، بذات الرسالة، بذات العصابات، ولكن على نطاق أوسع، هذه المرة ٢٠٠ ألف فلسطيني، ليسوا ٥٠٠ كما في دير ياسين. وما حدث في جباليا سيحدث في بيت لاهيا، وسيحدث في أحياء مدينة غزة واحدة تلو الأخرى. 


إسرائيل حاولت نفي مسؤوليتها عن دير ياسين، والآن تتباهي وتتبجح بتنفيذ إبادة جماعية مصغرة فيها. في المقابل، لا يوجد ضغط دولي، لا مظاهرات في عواصم عربية، لا قِمم ولا عِمم ولا رِمم، كل فلسطيني في الشمال حاليًا، هو آخر درع لما تبقى من غزة، حياتهم حياة غزة، وفناؤهم فناؤها.



شارك

مقالات ذات صلة