مدونات
الكاتب: د. عامر ممدوح
ثمة مستويان للنظر إلى الأمور، الأول: يمتاز بالتسطيح، والثاني يغوص عميقا في بواطنها، والمسألة مرتبطة بالذهنية المنبثقة عنها، ومنظومة التفكير التي تأسست عليها.
من يميل إلى الخيار الأول يكتفي بظواهر الأحداث، ويتصف بحسن الظن بما يرى ويقرأ ويستلم من رسائل، وهو واقع لا محالة تحت تأثير الإعلام الموجه والحملات الممنجهة وغسيل الأفكار.
أما الثاني فهو يدرك دون شك ان ما يحيط بنّا ليس إلا ما يطفو على السطح من جزء بسيط، وأن ما يختفي تحته هو اكبر بكثير، وسير هذا الكون الفسيح لا يجري عبثاً ولا ارتجالاُ، إنما يقوم على قوانين حاكمة وقواعد لازمة ونتائج منعكسة.
وإذا وضعنا أصحاب التيار الأول جانباً لأنهم سيبقون رهن ردود الأفعال وتلقي الصدمات دون استشعار من النفس او الذات، فان التيار الثاني سيكون الأولى بالاهتمام، وهو ما يتطلب تطوير أدواته وتمكين شخوصه وأفراده.
وفي ضمن ذلك لا بد من القول أن تحقيق الفهم المنشود للظواهر المحيطة بنا لا يكون إلا نتاج عملية متطورة من التفكير، تتداخل فيها شتى المعارف، وتستلزم امتلاك وسائل غدت ضرورية، ولا سيما مع زيادة تعقيد الحياة المعاصرة وتشابكها على شتى الأصعدة.
إن إدراك ما يدور حولنا يقتضي فهم ثلاثة محاور: الشخصيات الرئيسية والفاعلة في المشهد، والبيئة المحيطة، وجذور المشاكل والأحداث الواقعة، وهو ما يستدعي بالمقابل ثلاثة علوم لا بد منها، لكنها تدخل في عداد المهملة عربياً وبشكل لافت للنظر مع الأسف، وهي علوم: النفس والاجتماع والتأريخ.
لقد ظهر للعيان، ويوماً إثر آخر، أن غياب التفكير السليم، والتخطيط المتقن، والمتابعة الجادة، هو الذي أفرز هذا التعثر العربي الراهن، ليس هذا فحسب بل حكم على كافة المشاريع المطروحة للعلاج ـ سواءً اتفقنا أم اختلفنا مع عناوينها أم مضامينها ـ بالإخفاق المبكر، كونها لم تستند على أرضية صلبة وباعثة على الاطمئنان، فكأن الحال هنا والوقوف على أرض من تراب، وتعلق بالسراب، وركون على بناءٍ هش مصير الانهيار والزوال.
وإذا كان لزوم التفكير هكذا، فان العلوم التي أشرنا إليها في أعلاه إنما تعد القناديل التي يستضاء بها، والقاعدة الثابتة التي يرتكز إليها، والاشارات التي يهتدي من خلالها إلى الخيار والطريق الأسلم والأنجح.
ولو نظرنا إلى عالم الغرب لوجدنا الاختلاف والبون شاسع بين الطرفين بهذا الخصوص، ذلك أنهم يولون هذه العلوم أهميتها الكبرى وهم ينطلقون من القناعة التامة بكونها تمثل اداة فاعلة في ادارة الملفات وحكم العالم برمته، في وقت ما زال التعليم لدينا مرهون بتعلم الطب والهندسة والتعامل مع كل المستجدات وفق مبدأ حسن الظن بالآخر والنيات الطيبة واستيراد حتى الأفكار والمشاريع!
وهذا الأمر يمثل انتكاسة عمّا سبق، ذلك ان نظرة ووقفة مدققة لتراثنا الإسلامي الزاخر، ستجعلنا قبالة جهد عظيم وادراك مبكر لقيمة تلك العلوم، فثمة مدونات اسلامية بالغة الروعة حاولت أن تقدم تفسيراً للسلوكيات والتبدلات النفسية وأثرها، وبموازاتها تقف المفاهيم الاجتماعية والرؤية التاريخية المؤكدة على الاتعاظ والاعتبار مما مضى.
ولذا فلا غرابة أن يحصل الارتداد السلبي عن تمثل كل تلك المعارف والوقوع في فخ السطحية على حساب الفكر الاستراتيجي المتقن الذي التزم به الآخر فأبدع وأجاد وفعّل ما فهمه بشكل عملي فهو اليوم الذي يحكم ويعيد رسم حتى خرائط العالم كما يشاء!
بالتالي؛ لماذا نحتاج هذه العلوم اليوم وبشدة؟
إن الاهتمام بهذه العلوم الثلاثة يعيد تشكيل معارفنا بصورة أكثر منهجية، ويوجد المنظومة الفاعلة التي تستطيع أن تتعامل مع المستجدات والملفات الطارئة، ويرسم مسارنا ورؤيتنا بعيدة وقصيرة المدى، ويمنحنا القابلية على مجابهة مشروع محو الهوية ويضعنا على أولى خطوات مشروع التمكين والنهضة المنشود.
وهنا نقول وبتركيز شديد له تفصيل كبير، ان الثروة الكبرى المتحققة من هذه العلوم لا تقدر بثمن، فعلم النفس يمنحنا مفاتيح قراءة الشخصيات وأسس تفسير سلوكياتها فلا يغدو الحال بعدها رهن المفاجأة او الصدمة بل سيكون الشخوص وكأنهم كتب مفتوحة للمتلقي، وسيكون من السهل علينا التنبؤ حتى بالخطوات القادمة.
ويضعنا علم الاجتماع إزاء تمعن متفحص للبيئة الراسخة في حياة أصحابها، أشكالها وملامحها وتحولاتها، وبالصورة التي يلمس فيها أثرها على وجوه الأقوام والجماعات وما تمثله من مواقف وتتخذه من قرارات وتوجهات.
وتلك المفاتيح وهذه القراءة المهمة لن تكون متكاملة إلا بالاستناد إلى قاعدة معلومات شاملة يوفرها التاريخ لكل منهما، فالتاريخ هو الخزان الثري، والموسوعة المتكاملة، التي تملك المعلومات وتنتظر الفكر الثاقب الذي يحللها ويستخلص منها الدروس والعبر.
إنه نداء التوظيف المشترك بين العلوم الثلاثة، كلٌ يمنح ما لديه للآخر، والخلاصة المرجوة فهم شامل وفعل بالغ الجودة، وبدونه سنبقى نعيش في ظل متاهة كبرى دون انتهاء، وطوفان من الهزائم المتتابعة التي لا تجد عصا التعامل المطلوب ازائها، فنحن وسط دوامة من الالغاز، ولن تكون قفلاُ مستعصياً على العلاج فيما لو استخدمنا المفتاح الصحيح!