سياسة
تحت عناوين الانتصار والقضاء على الأعداء وسحقهم، وضع نتنياهو كيانه على سكة قطار بلا فرامل، يتقدم دونما اكتراث بأي مطب قانوني أو دولي منتشيا بإنجازات يرى فيها جوهر وجوده واستمراريته، بعدما استشعر تهديدا يهدد حلمه بما يسمى الدولة اليهودية أو إسرائيل الكبرى.
يعيش رئيس الوزراء الإسرائيلي سكرة نجاح قواته بتوجيه ضربات استخباراتية مدوية لحزب الله في لبنان ليس أقلها اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، والاستخدام الواسع لسلاح الجو في الضربات على عصب الحزب ومحور المقاومة بشكل عام، وفي الوقت نفسه القدرة على احتواء الضربات التي يوجهها الحزب وجبهات أخرى، ومنع وقوع إصابات بشرية كبيرة في صفوف الإسرائيليين، أو التكتم الدقيق على حجم الخسائر إن حصلت مما زاد الثقة بالذات وطال أمد نشوة النصر التي يعيشها نتنياهو وأعضاء حكومته اليمينية.
كذلك فإن القصف المتكرر لليمن وللحدود السورية اللبنانية وللحدود السورية العراقية أعاد الاعتبار لمفاهيم الهيمنة والسيطرة الإقليمية في التصريحات الإسرائيلية، بل دأب أكثرية القادة السياسيين والعسكريين على الحديث عن إعادة ترتيب المنطقة وإحداث تغيير استراتيجي بعيد المدى.
ولا بد من الإشارة الى أن هذا التحول السريع في المزاج والمفاهيم كان مطلوبا لليمين وللجيش الإسرائيلي بعدما اهتز الكيان على وقع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي، حيث قارن الإسرائيليون وضعهم اليوم بوضعهم في السابع من أكتوبر من حيث العجز الاستخباري والشلل العملياتي والخيبة النفسية.
لكن معطيات الميدان حتى الساعة تفرض نفسها في مشهد معاكس وما تزال تقف حجر عثرة أمام رحلة النصر الوهمي التي يواصلها نتنياهو متسلحا بوعود وتصريحات خالفتها مجريات معركة الاستنزاف بفصولها المتعددة، إذ ارتفع منسوب اليأس لدى الأوساط الإسرائيلية مع استمرار الحرب على غزة لمدة تجاوزت العام دون نتائج ملموسة سوى الدمار وتعاظم الروح الانتقامية.
فالعجز عن تحقيق أهداف الحرب واستمرار احتفاظ حماس بالأسرى رغم كل ما جرى ويجري ورغم اغتيال رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كذلك قدرة حزب الله على إطلاق الصواريخ والمسيرات الانقضاضية رغم تأكيد الجيش الإسرائيلي القضاء على سبعين في المائة من قدرات الحزب، كل ذلك خلق حالة انعدام ثقة ليس فقط بالقيادة السياسية وإنما أيضا بالجيش، والجيش الإسرائيلي كما هو معروف ليس مجرد حشود عسكرية مدججة بالسلاح بل يمثل أيضا إيمان الإسرائيليين بقدرتهم على الاستمرار والبقاء في هذه المنطقة، فهم خلافا لكل الشعوب يؤمنون بالتعبير التوراتي الذي يقول إنهم بالسيف قاموا وبالسيف يعيشون.
طوال العام الماضي كانت النظرة لهذا الجيش أنه عجز عن حماية المستوطنين في السابع من أكتوبر وهذا نذير شؤم للمستقبل رغم كل ما يقوم به من تدمير ممنهج لقطاع غزة.
وتعمل القيادتان السياسية والعسكرية حاليا وبشتى الوسائل الإعلامية وغيرها على الإيحاء بأن إسرائيل استعادت زمام المبادرة وأظهرت قدراتها التكنولوجية المتفوقة على هزيمة كل أعدائها وأنها تخوض حاليا حربا على عدة جبهات وأن يدها هي الطولى.
وبذلك يوجه الكيان الإسرائيلي أيضا رسائله المباشرة وغير المباشرة إلى إيران ويحاول الإيحاء لها بأن ما أظهره من اختراق لحزب الله له ما يعادله أو يزيد من اختراق لإيران. لكن من المنطقي أيضا الافتراض أن نجاحات إسرائيل في الاغتيالات في لبنان أظهر قدرات استخباراتية وتقنية بارزة بعد الفشل الاستخباراتي الكبير في غزة، وهذا يشير إلى أن إسرائيل واستخباراتها ليست كلية القدرة وأنها تفشل وتنجح وفقا للظروف والمعطيات وبالتالي لا مغزى حقيقي لادعاء أبدية القدرة على تحقيق النجاح.
وتثبت المعطيات أن المقاومة، وخصوصا في لبنان، كانت وما تزال الأقدر على التعلم من أخطائها وشكل حزب الله مدرسة متقدمة في هذا الخصوص.
كما لا بد من التذكير بأن حماس والمقاومة في غزة لم يولدا بالقوة والحجم الذي هما به، وإنما بدآ صغارا وكبرا بالممارسة وتحت النار. وهذا ينطبق أيضا على الحزب الذي بدأ بمجموعات صغيرة وانتهى إلى ما هو عليه اليوم قوة إقليمية يحسب لها حساب، فهو بما يمتلكه من خبرات وتاريخ قادر على تجاوز محنته والتعلم من أخطائه والعودة بقوة إلى ميدان ما يزال بأمس الحاجة إليه.
نشوة إسرائيل قد تكبر خلال الأيام والأسابيع المقبلة، لكن مصيرها هو الاصطدام بالواقع. فالمقاومة في لبنان وفي فلسطين تعاطت مرارا مع الجيش الإسرائيلي وهزمت نظرية الجيش الذي لا يقهر.
الجيش الذي يقهر بقوة معرفة نقاط ضعفه وطريقة عمله وتقنيات سلاحه وحركته وسبل تلافي عوامل قوته، وهذه كلها وسائل مجربة ليس فقط في منطقتنا وإنما في العالم أجمع. وطبعا يضاف إلى ذلك إرادة نابعة من إيمان بطريق الحق وقدرة على الفعل واتخاذ القرار السليم والحكيم المبني على وحدة الشعب والعقيدة الراسخة بانتصار أصحاب الأرض.
ليس مبالغة القول أن نشوة نتنياهو مؤقته وقدرتها على إعادة ترتيب المنطقة استراتيجيا ولت منذ زمن بعيد. وإذا كانت حرب لبنان الأولى بدأت بوهم القدرة على تغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة (وفق رؤية شارون) فإن الحرب الحالية أعجز عن تغيير الوضع الاستراتيجي وفق رؤية نتنياهو.
يكفي القول بأن إسرائيل نتنياهو تحاول الحلول مكان الولايات المتحدة والغرب كقوة ترسم معالم المنطقة وهذا الموقف سيصطدم بالموقف الأمريكي الذي ما يزال يكرر بأن حل الدولتين هو الحل الوحيد الممكن للصراع في الشرق الأوسط، كما أنه ليس صدفة أن ترمب نفسه أعلن تأييده لاتفاق نووي جديد مع إيران، وربما هذا يعني رفض الولايات المتحدة تحقيق حلم نتنياهو بشن حرب ساحقة ضد إيران حتى الآن، لتبقى كلمة الميدان هي العليا ودوي القصف يعلو كل الضجيج الآخر ووحدها الأيدي القابضة على الزناد هي العامل الحاسم.