أدب
في الأدب العربي، تجد الدَّارَةَ، والبُرقَةَ، والحَرَّة (التي هي موضوع المقال)، ولكل واحدة منهنّ معناها واستخداماتها.
أما الدارة (جمعها دارات)، فهي الأرض اللينة البيضاء التي ينبتها ما طاب ريحه من النبات فتقيم فيها القبيلة ويشتاقها الناس بعد رحيلهم عنها. ولدى العرب ما يزيد على مائة دارة ذُكرت في الأشعار، مثل “دارة جلجل” التي وردت في شعر امرئ القيس، و”دارة الصفائح” التي ودرت في شعر الأفوه، و”دارة محصن” التي وردت في شعر دريد بن الصمة إلى غير ذلك من دارات العرب.
وأما البُرقة فهي الأرض الغليظة التي اختلط رملها بالحجارة، وجمعها بُرَق، وبُرَق العرب التي وردت في أشعارهم تزيد على المائة، كبرقة ثَهمَد التي في معلقة طرفة، وبرقة واسط التي وردت في شعر بَشامة بن الغدير:
قالَت أُمامَةُ يَومَ بُرقَةِ واسِطٍ — يا اِبنَ الغَديرِ لَقَد جَعَلتَ تَغَيَّرُ
إلى غير ذلك من برق العرب التي وردت في أشعارهم.
وأما الحَرّة التي هي موضوع المقال (جمعها حِرار وحَرّات)، فهي الحجارة السُّود التي كأنما أحرقت بالنار، بالتعريف المعاصر: الحرة هي الصخور البركانية، بمعنى أنها الكتلة الصخرية المتشكلة من انفجار البركان. في الجيولوجيا نطلق مصطلح “الصخور النارية” على الصخور المتكونة من تجمد الصهارة التي تخرج من باطن الأرض، فجوف الأرض تخرج منه مادة منصهرة ذائبة، فإذا تجمّدت تلك المادة سميناها صخورا النارية. يوجد نوعان من الصخور النارية: صخور جوفية وهي الصخور التي تجمدت في جوف الأرض (لم تتجمد على السطح)، فترى حجم المعادن فيها كبيرا لأن معادنها وجدت الوقت الكافي للتشكل والتبلور. وأما النوع الثاني من الصخور فهو الصخور البركانية التي يسميها العرب الحرة، وهي الصخور التي تجمدت على سطح الأرض بعد انفجار البركان.
حين يقذف البركان بالحمم إلى سطح الأرض، تنخفض درجة حرراتها فتتجمد بسرعة مشكلة الصخور البركانية، وهي بخلاف الصخور الجوفية لا تُرى معادنها بالعين المجردة لأن معادنها لم تجد الوقت الكافي للتبلوُر. لديك الآن إذَن صخران: جوفي وبركاني. أشهر صخر جوفي هو الأعبل المعروف بالجرانيت، وأشهر صخر بركاني هو النِّسفة أو البازلت، وهو صخر أسود مظلم لا تتبين فيه المعادن، لأن معادنه لم تجد الوقت الكافي كي تنمو، بسبب تجمد الصخر بسرعة بعدما قذف به البركان إلى سطح الأرض.
الغرض من كل ما ذكرت لك هو أن أقول إن الصخور البركانية التي هي النوع الثاني من أنواع الصخور النارية هي التي يسميها العرب الحَرَّة.
جزيرة العرب فيها سلاسل من هذه الصخور البركانية، وأهل الجاهلية كانوا يعرفون أن هذه الصخور تشكلت من النار، لذلك سموها حرة، من الحرارة. هم يعرفون أن النار لعبت الدور الأكبر في تشكل هذه الصخور. لذلك كل موضع من جزيرة العرب سبق أن وقع فيه بركان ونتجت عن ذلك البركان كتلة صخرية فتلك الكتلة يسميها العرب حرة وتجمع على حرار وحرات. والمصادر الإنجليزية الجيولوجية حين تتحدث عن الحَرات تعتمد الاسم العربي لأنه هو المعروف في المنطقة.
عرفنا إذن معنى الحرة، والآن يجب أن نعرف معنى اللابة: البركان حين يسكب الحمم فتزحف حممه الذائبة مع المنحدرات، تلك الحمم المتلدية ستتجمد وتصير حجارة، فتلك الحجارة المتدلية الممتدة كأنها لسان تسمى اللابة. فاللابة هي لسان الحرة الممتد على باطن الأرض، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما بين لابتيها” يقصد المدينة المنورة، وذلك أن المدينة تقع بين حرتين: حرة شرقية وهي حرة واقم، وحرة غربية وهي حرة الوبرة، فلابة حرة واقم تحد المدينة من الشرق، ولابة حرة الوبرة تحدها من الغرب.
ولا أدري هل volcanic lava بالإنجليزية، التي هي الحمم البركانية لا أدري هل lava مأخوذة من اللابة التي في العربية. فالأمر يحتاج إلى بحث ولم أتأكد منه بعد. الآن بعدما عرفنا الحرة واللابة، سنذكر بعض حِرار العرب (أو حرّات العرب إن شئت)، ففي جزيرة العرب ما يقارب ثلاثين حرة، وأغلبها متقارب كما يظهر في الخريطة، فهي متصلة كالحزام في سياق جغرافي واحد.
من أشهر هذه الحرار حرة ليلى وهي لبني مرة بن عوف الذبيانيين، وهي حرة على طريق الحاج إلى المدينة، وقد حصل فيها انفجار بركاني أيام عمر رضي الله عنه، وهذه الحرة هي التي يقول فيها ابن ميادة الذبياني:
أَلالَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً — بِحَرَّةِ لَيلى حَيثُ رَبَّتَني أَهلي
بِلادٌ بِها نيطت عَلَيَّ تَمائِمي — وَقُطِّعنَ عَنّي حينَ أَدرَكَني عَقلي
وَهَل أَسمَعَنَّ الدَّهرَ أَصواتَ هَجمَةٍ — تَطالَعُ مِن هَجلٍ خَصيبٍ إِلى هَجلِ
تَحِنُّ فَأَبكي كُلَّما ذَرَّ شارِقٌ — وَذاكَ عَلى المُشتاقِ شر مِنَ القَتلِ
من أشهر حرار العرب أيضا حرة النار وهي لبني سليم، وهي أعظم حرات العرب وأكبرها، وهي قريبة من حرة ليلى التي ذكرت لك. وحرة النار هذه هي التي يقول فيها النابغة:
إِمّا عُصيتُ فَإِنّي غَيرُ مُنفَلِتٍ — مِني اللِصابُ فَجَنبا حَرَّةِ النارِ
أَو أَضَعُ البَيتَ في سَوداء مُظلِمَةٍ — تُقَيِّدُ العيرَ لا يَسري بِها الساري
من حرار العرب كذلك حرة واقم:
وهي التي تقع إلى الشرق من المدينة المنورة، وحرة واقم هذه هي التي وقع فيها اليوم المشهور يوم الحرة، في أيام يزيد بن معاوية، وذلك بعد استشهاد الحسين رضي الله عنه.
وفي التوجع على ما حصل في يوم الحرة يقول ابن قيس الرقيات:
تذكّرني قتلى بحرّة واقم – أُصــيــبَــت وَأَرحـامـاً قُـطِـعـنَ شَـوابِـكـا
وَقَــد كــانَ قَـومـي قَـبـلَ ذاكَ وَقـومُهـا – قَدَ اورَوا بِها عوداً مِنَ المَجدِ تامِكا
فقطّعتَ اَرحام وفُضت جماعة – وعادت روايا الحلم بعد ركائكا
وحرة واقم هذه هي التي انفجر منها بركان عظيم في القرن السابع الهجري عام 654 ه، فزحفت حمم البركان حتى اقتربت من الحرم وفزع الناس وجعلوا يتضرعون إلى الله، وقد مكث هذا البركان أكثر من 50 يوما، وعم دخانه الأرجاء فلا تكاد ترى ضوء الشمس، ثم بعد ذلك توقف النشاط البركاني وتجمدت حمم البركان. ومن آثار هذا النشاط البركاني اللابة السوداء التي تشكلت من زحف الحمم، وهذه اللابة يقطعها الآن الطريق السريع القادم من القصيم.
ومن حرار العرب كذلك الحرة الرجلاء، وهي بين المدينة والشام، وهي التي يقول فيها الراعي النميري:
كَأَنَّما شُقَّ قَلبي يَومَ فارَقَهُم – قِسمَينِ بَينَ أَخي نَجدٍ وَمُنحَدِرِ
فَقُلتُ وَالحَرَّةُ الرَجلاءُ دونَهُمُ – وَبَطنُ لَجّانَ لَمّا اِعتادَني ذِكَري
صَلّى عَلى عَزَّةَ الرَحمانُ وَاِبنَتِها — لَيلى وَصَلّى عَلى جاراتِها الأُخَرِ
هُنَّ الحَرائِرُ لا رَبّاتُ أَخمِرَةٍ – سود المَحاجِرِ لا يَقرَأنَ بِالسُوَرِ
من حرار العرب كذلك حرة ضَرْغَد، وهي التي يقول فيها النابغة:
ياعامِ لَم أَعرِفكَ تُنكِرُ سُنَّةً — بَعدَ الَّذينَ تَتابَعوا بِالمَرصَدِ
لَو عايَنَتكَ كُماتُنا بِطُوالَةٍ — بِالحَزوَرِيَّةِ أَو بِلابَةِ ضَرغَدِ
لَثَوَيتَ في قِدٍّ هُنالِكَ موثَقاً — في القَومِ أَو لَثَوَيتَ غَيرَ مُوَسَّدِ
إلى غير ذلك من حرار العرب كحرة عبّاد وحرة تبوك وحرة شوران وحرة ضارج، وقد ذكرها كلها ياقوت رحمه الله في معجم البلدان.