سياسة
في الجزء الأول من هذا المقال تناولنا إشكالية المثالية المَرَضِية التي تواجه التفاؤل الاستراتيجي في مسار القارة الإفريقية. أشرنا إلى انشغال مفكرينا الأفارقة والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بمحاولات تخفيف وطأة الواقع المرير لقارتنا عبر ترويج شعارات مزخرفة وسرديات متفائلة، تحت مبرر تعديل الخطاب المتشائم حول مستقبل أفريقيا أوهامًا وأحلامًا زائفة، ما يؤدي في النهاية إلى تضليل الشعوب وإيهامها بنصر قريب. مثل “أفريقيا ستنتصر!”.. “لقد حان دور إفريقيا!”
أما الجزء الثاني من المقال، فسيتناول وهمًا آخر ينبع من تفاءل مفرط، وتجاهل واضح بتجارب التاريخ وآليات دورانه. فالتاريخ يعلمنا دروسًا لا يجب إغفالها، وإن لم نتعلم منها، سنكرر الأخطاء ذاتها بلا جدوى.
وهم الاستقلال الذاتي: المثالية الأفريقية أمام الواقع المعقد
إن أحد الأوهام الكبرى التي تعكس مثالية مفرطة لدى بعض الكتاب والناشطين الأفارقة، خاصة المقيمين في الغرب ومن يشاركهم الرؤية من مفكري القارة، هو الاعتقاد بأن: “أفريقيا قادرة على النجاح بمفردها، على التحرر بمفردها.”
يخبرنا التاريخ البعيد والقريب أن أفريقيا شهدت ثوارًا بواسل، كرّسوا حياتهم ودفعوا أثمانًا باهظة من أجل قضاياهم، ومع ذلك، كانت العديد من الثورات مصيرها الفشل. لا لأن التضحيات كانت ناقصة أو أن حماستهم ضعيفة، بل لأن فهم الأسباب العميقة لإخفاقاتهم أصبح ضرورة لنا كخلفاء، لضمان عدم تكرار الخطوات ذاتها دون تبصّر.
في ستينيات القرن العشرين، واجه حزب اتحاد شعوب الكاميرون (UPC)، وهو حزب ثوري يناضل من أجل استقلال الكاميرون، اتهامات من فرنسا بأنه مجرد أداة شيوعية تخدم مصالح السوفييت. تجنبًا لهذه الوصمة، ابتعد الحزب عن طلب الدعم من الاتحاد السوفييتي، واتجه بدلًا من ذلك نحو الحزب الشيوعي الفرنسي، معتقدًا أن ذلك قد يحفظ استقلاليته ويكسبه دعمًا سياسيًا.
إلا أن هذا التحرك كان خطأ استراتيجيًا لم يدركه الحزب؛ فقد تجاهل حقيقة أن فرنسا كانت تهدف إلى منع أي دعم عسكري سوفييتي قد يحسم المعركة لصالح الثوار. وبالتوجه نحو حليف ضعيف، كالحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يكن في السلطة ولا يملك قدرة تقديم الدعم الفعلي، وُضع مقاتلو الحزب في عزلة جيوسياسية تركتهم عرضة للتفوق العسكري الفرنسي، الذي تمكن من سحق ثورتهم بسهولة.
حتى اليوم، تُعد البنية السياسية والاقتصادية في الكاميرون امتدادًا لتسويات استعمارية جديدة، تعيد إلى الأذهان أن التحرر ليس مجرد شعار، بل مشروع يحتاج إلى استراتيجيات واعية، واستعداد لمواجهة حقائق التاريخ ودروس الماضي بواقعية لا تعرف الأوهام.
الكاميرون وفيتنام: دروس في التحالفات الاستراتيجية
عند مقارنة وضع الكاميرون مع فيتنام، تتضح أبعاد الخطأ الاستراتيجي بصورة جلية. فقد واجه الحزب الثوري الفيتنامي “الفيت مين”، قبل اندلاع الحرب الهندوصينية الأولى، اتهامات مماثلة من فرنسا بوصفه أداة للسوفييت والماويين، وأنه لا يمثل قومية حقيقية تسعى للاستقلال. سعت فرنسا، من خلال هذا الربط مع القوى الشيوعية الأجنبية، إلى تجريد الفيت مين من مشروعية هدفه الوطني.
غير أن الفيت مين لم يتراجع أمام هذه التهم، بل اختار أن يعزز علاقاته مع حلفائه الاستراتيجيين الأقوياء، مع الحفاظ على رسالته الاستقلالية. وفي حربهما الطويلة لنيل الاستقلال، استفادت فيتنام من دعم عسكري سخي من حلفائها. ففي تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، صادر بتاريخ 3 سبتمبر 1965، تم الكشف عن أن الاتحاد السوفيتي قدم لفيتنام دعمًا متقدمًا تمثل في “أسلحة مضادة للطائرات، ومعدات رادار متطورة، وطائرات مقاتلة من طراز ميغ متعددة الأجواء، بالإضافة إلى ثمانية قاذفات نفاثة من طراز IL-28″، مع برامج تدريب للطيارين الفيتناميين على يد الخبراء السوفييت، فضلًا عن مساعدات اقتصادية متنوعة.
من دون هذا الدعم، كان من المرجح أن يخسر الفيت مين معركته من أجل الاستقلال، كما حدث مع حزب اتحاد شعوب الكاميرون (UPC). واليوم، لا تزال فيتنام وروسيا تتمتعان بتحالف استراتيجي متين، جذوره تعود إلى تلك الحقبة النضالية، ليكون شاهدًا على الأهمية البالغة للتحالفات القوية في مسيرة التحرر والاستقلال.
إذن، أفريقيًا، حين يردد المثاليون شعار “أفريقيا قادرة على النجاح بمفردها!”، فإنهم يعيدون إنتاج حدود التفكير المثالي الذي يتجاهل العلاقات الموضوعية في عالم محكوم بتوازنات القوى. إذْ كيف لمنطقة تعاني من ضعف اقتصادي وعسكري وسياسي، وفشلت محاولاتها الثورية كلها من باتريس لومومبا من الكونغو حتى توماس سانكارا من بوركينا فاسو، أن تواجه وحدها تحالفًا من دول أكثر قوة كالناتو أو فرنسا مثلاً، دون الارتباط بتحالف مع طرف أقوى؟
وعندما يصر هؤلاء المثاليون على أن “أفريقيا يمكنها الاستغناء عن تحالفها مع الصين وروسيا”، ويقترحون التحالف مع دول كتركيا والهند والبرازيل، فإنهم يكشفون عن قصور آخر في فكرهم. يَكْمُن هذا القصور في أن “الأفكار” التي يستخدمونها لتحليل العالم تأتي مشبعة بزوايا نظر لا تخدم مصالح القارة. الحقيقة هي أن أفريقيا ليست في وضع يسمح لها بالاستغناء عن التحالف مع القوتين الوحيدتين، الصين وروسيا، القادرتين فعليًا على تحدي الهيمنة الغربية. بيد أن المثاليين هم من يسعون لتجريد أفريقيا من هذا التحالف، مدفوعين بشكوك تجاه هذه الدول، مخافة أن تصبح حلفاء اليوم أعداء الغد، وتهدد بعودة القمع والاستعمار من جديد من طرف الحلفاء الجدد.
لذا، يعتقد هؤلاء المثاليون أن الاستراتيجية الوحيدة القابلة للتطبيق هي تجنب أي تحالف جاد، والاكتفاء بالميل مع الرياح الأقوى. فإذا بدت روسيا أكثر منفعة في الوقت الراهن، نتجه شمالًا؛ وإذا عرضت الصين دعمًا ماليًا، نتجه شرقًا؛ وإن أشار الغرب، نعبر المحيطات لنجيب بـ”نعم؟”. بل وصلت سذاجة بعضهم إلى إطلاق حملات من قبيل ” لتكن تحالفاتنا لا شرقية ولا غربية”!
لا تُعتبر هذه الرغبة شبه الانتحارية في عزل أفريقيا جيوسياسيًا مجرد نتاج شكوك عابرة؛ بل هي ثمرة لحملة دعاية غربية مستمرة، تمامًا كما حدث خلال الحروب المناهضة للاستعمار، وهدفها هو الحيلولة دون تشكُّل تحالفات استراتيجية بين الدول التي تتحدى الهيمنة الغربية وبين تلك الواقعة على أطراف النظام الدولي.
لو ألقينا نظرة موضوعية على العالم كما هو، لأدركنا ما وراء هذه الحملات الدعائية، وفهمنا أن المخاوف التي تُبث حول هذه التحالفات لا أساس لها. وإلا، لكانت فيتنام وكوريا الشمالية اليوم مستعمرات روسية. فيتضح هنا أن مشاعر العداء التي نشعر بها تجاه دولتين لم تشنّا علينا حربًا قط ليست طبيعية، بل تمت صناعتها في أذهاننا لثنينا عن بناء تحالفات مع قوى قد تقوي من موقفنا.
إن أي مقاومة تحتاج إلى استراتيجية متينة، حيث تكون العاطفة محفزًا للتفكير، وليست بديلاً عنه. وهكذا، نجد أن الجنرال الفيتنامي فو نغوين جياب، الذي قاد فيتنام إلى النصر في الحرب الهندوصينية الأولى (1946-1954) ضد فرنسا، يوضح أن الاستراتيجية هي سلاح الضعفاء الأوحد والأمضى.
في مذكراته، قال الجنرال الفيتنامي فو نغوين جياب: “كان الجنود الأمريكيون شجعانًا، لكن الشجاعة وحدها لا تكفي. لم ينتصر داود على جالوت بفضل شجاعته فقط؛ بل لأنه أدرك أنه لو واجه جالوت بالسيف كما يفعل خصمه، لكان مصيره الهلاك. لكنه اختار حجرًا ومقلاعًا، واستهدف رأس جالوت، وأسقطه بذكاء. استخدم داود عقله (ذكاءه) في قتاله، وهذا ما فعلناه نحن الفيتناميين في مواجهة الأمريكيين”.
لكن، ورغم جميع ما سبق، يجدر بي الذكر أن بعض الكتاب الأفارقة يعترفون بخطأ الانعزال عن أي تحالف جاد، لكنهم يُصرّون على أننا “نملك الحق في ارتكاب الأخطاء”. يقولون بضرورة اتباع طريقنا الخاص، واتخاذ القرارات التي نراها مناسبة، ولو كانت خالية من البصيرة. لذا، إذا أَدَرْنا ظهورنا للصين وتجاهلنا روسيا، متجهين نحو أوروبا لنعلن “استقلاليتنا”، أو سعينا لبناء تحالفات ودية مع تركيا، فإنهم يرون بحسن نية ضرورة الصبر على قادتنا ومنحهم الفرصة لاختبار خياراتهم، حتى وإن بدت القرارات غير ناضجة وخاطئة.
لكن ومرةً أخرى، تتصادم هذه المثالية -من وجهة نظري- مع مصالح أفريقيا، حيث ينظر هؤلاء العالم من زاوية ذاتية تحددها احتياجاتنا، وكأنّ الزمن يتشكّل وفق الإطار الذي نرغب به، متجاهلين حقيقة أن الزمن لا ينتظر أحدًا ويمضي بمعزل عن إرادتنا.
لا يمكن لأفريقيا أن تنمو وتزدهر بمعزل عن تفاعلات العالم المحيط به، متفيئةً بظل شجرة ضخمة تتجاهل ما يدور حولها. نحن نعيش في عصر تتسارع فيه وتيرة المنافسة، ومن يتقاعس عن مواكبتها يُحكم عليه بالتخلف. عندما يتعامل ساسة أفريقيا مع التحالفات الاستراتيجية وكأنهم ينتقون أطباقًا من بوفيه، فإن العالم كله يراقب بحذر. وفي نظر الحلفاء المحتملين فإن الدول الأفريقية -في هذه الحالة- تُعتبر غير قابلة للتنبؤ في علاقاتها؛ فغياب الأيديولوجيا الموحدة والناضجة يجعل مواقفها تميل بين الأطراف، وهذا التذبذب يُضعف مصداقيتها لدى أي حليف محتمل. وهكذا حلفاؤنا المحتملون سيتراجعون عن دعمنا، ومنافسونا يترصدون أخطاءنا بصمت. ومع ذلك يحسب المثاليون أن الزمن متاحًا لنا بلا حدود، بينما الواقع يفرض إيقاعًا لا ينتظر أحدًا. لا أحد يمكنه أن يؤكد اليوم أن الفرصة المتاحة أمام أفريقيا قد تتكرر.
فشغف الجماهير الافريقية وحده لا يضمن الازدهار. فالسلام، والأمن، والتنمية ليست حقوقًا مكتسبة أو مضمونة لأفريقيا؛ فالعالم يسير وفق قواعد وقوانين لم نخترعها، بل فرضتها القوى المهيمنة. فقط عبر فهمنا العميق لهذا النظام يمكننا أن نرسم مسارًا خاصًا بنا. إننا مقيدون بديناميات القوة والمسارات التاريخية التي تشكل عالمنا، تمامًا كما يرتبط البشر بالأرض وفق قوانين الفيزياء التي تحكم الكون.
الخاتمة: وفي التتمة، حري بالذكر أن المثالية لا تصنع الأمل، بل تغرس الأوهام. أوهام تروج بأن تحرير أفريقيا قاب قوسين أو أدنى، وأن مجرد نداء الحرية والاستقلالية بأعلى الصوت سيجلبهما. بيد أنها خديعة تستدرج الكثيرين للاستمرار في التظاهر بأن أفريقيا، خلال سنوات معدودة، ستصبح قوة عظمى دون دعم أو تحالفات، وأن منقذًا للقارة سيأتي من تلقاء نفسه، يؤسفني قوله، لكن هذه ليست سوى أضغاث أحلام.
فالطريق نحو التغيير طويل، مليء بالتحديات، ويتطلب التزامًا واعيًا من كل فرد فينا. هذا الادعاء مني، ليس نظرة تشاؤمية كما قد يزعمه البعض، بل دعوة للتمييز بين الأمل المثالي والتفاؤل الاستراتيجي. الأمل المثالي ليس إلا نوعًا من الرومانسية العاطفية تجاه رؤيتنا المستقبلية، بينما التفاؤل الاستراتيجي يقوم على فهم أن العالم يتشكل عبر قوى خارجة عن إرادتنا. لكنه لا يعتبر الوضع الراهن ثابتًا أو محتومًا؛ بل يرى إمكانية التغيير من خلال نضال واعٍ وثوري.
في كتابه “الثامن عشر من برومير للويس بونابرت”، كتب كارل ماركس ببلاغة يقول: “يصنع البشر تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه بشكل اعتباطي أو في ظروف اختاروها بأنفسهم، بل في ظروف موجودة وموروثة من الماضي.” ولكي نحطم قيود التاريخ أفريقيًا، يجب علينا أن نفهمه؛ والرغبة في تحطيم هذه الأوهام هي ما يشكل التفاؤل الاستراتيجي، فكما يقول ماركس: “إلغاء سعادة الشعب الوهمية هو المطالبة بسعادتهم الحقيقية”.
فالثورات ليست خالدة. لكنها، فقط عندما تدرك محدوديتها، يمكنها أن تخلق واقعًا جديدًا تستغل فيه الشعوب إمكاناتها بأقصى طاقاتها، يناضلون بجهد لا يعرف الكلل، مدركين أن وقتهم ومكانهم محدودان، ساعين لتحقيق معنى حقيقي في هذا العالم. وقد عبّر كيم سان، المقاتل الثوري الذي كرّس حياته لتحرير كوريا من الاستعمار الياباني، عن هذا التفاؤل قائلاً: “كانت حياتي سلسلة من الإخفاقات، وتاريخ بلادي حافلًا بالهزائم. لم أحقق إلا انتصارًا واحدًا – على ذاتي. لكن هذا الانتصار الصغير كان كافيًا ليهبني الثقة للاستمرار. لقد عشت المآسي وواجهت الهزائم، لكنها لم تحنِني، بل منحتني قوة جديدة. ورغم أن الأوهام تضاءلت، لم أفقد إيماني بالإنسان وبقدرته على صنع التاريخ. من ذا الذي يستطيع أن يتنبأ بإرادة التاريخ؟ وحدهم المظلومون يعرفون أن عليهم قلب موازين القوى كي يبقوا أحياء. وحدهم الذين لا ينكسرون في الهزيمة، هم من ضحوا بكل شيء ليكسبوا عالمًا جديدًا بالكامل في معركتهم الأخيرة.”