سياسة
يُقال أنّ اسم “جباليا” مشتقّ في الأساس من الكلمة الرومانية “أزاليا” بسبب إقامة بعض الرومان على جزء من أرضها، ويقال أيضًا أنّه مشتق من كلمة “جبل” العربية. لا يهمّ أيّمها الأصحّ، فإن تأمّلنا الاسمين قليلاً، فسنرى “جبل” و “أزليّ”، وقد أثبت لنا هذا المخيّم أنّه فعلاً جبل غزّة الشامخ الذي يثبّت الأرض بصموده الأزليّ. والجدير بالذكر أنّ هذا الصمود ليس أمرًا جديدًا البتة، فما يحصل الآن في مخيّم جباليا، أو كما عُرف بمخيم “الثورة” من حصار وتجويع وعبث بدماء المدنيين فيه، ليس بالجديد، وإنّما هو مشهد أشبه بالديجافولتاريخ طويل من ذات المشاهد التي تكررت كثيرًا في سنوات النضال الفلسطيني. فهذا المخيّم الذي يعتبر الأكبر في القطاع، لطالما كان الحاضنة الأولى للمقاومة الفلسطينية، كما أنّه كان دومًا محطة حاسمة ومفصلية من محطّات النضال والصمود الأولى ضدّ الكيان الغاصب. يسكنه لاجؤون هُجّروا قصرًا من مدنهم في النكبة عام ١٩٤٨م أثبتوا برفضهم ترك مخيّمهم رغم إقامة الاحتلال أكبر حملة إبادة في حقّ سكّانه، أنّ “بيع الأراضي” ما كانت سوى طعم ابتلعه هذا العالم المنافق بطواعية ورضى للتسويق رواية الاحتلال. وكما تشابه مشهد الدمار والموت مرارًا، تشابهت معه أيضًا أدوات وأساليب الإبادة عبر الأعوام، لتشمل القصف والحصار والتجويع والتهجير القصري تحت تهديد السلاح، إلّا أنّ هذا المخيّم في كلّ مرّة كان بمثابة كابوس أسود، وصفحة لا تُطوى في ذاكرة الكيان الهشّ. فأهالي هذا المخيّم يعلمون جيّدًا أنّ مخيّمهم هذا كحصن منيعةٍ، إن سقط، سقط الشمال، وسقطت غزّة بأكملها.
مخيّم أنجب الانتفاضة الأولى
كانت محض مصادفة، لكنّها أشعلت فتيل المقاومة منذ ٣٧ عامًا وحتّى يومنا هذا. بدأت حينما دعم سائق شاحنة إسرائيلي متعمدًا سيارة كانت تقلّ ستة عمال فلسطينيين كانوا عائدين من عملهم في أراضي ال٤٨. استشهد أربعة من العمّال فانتفض الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فحملوا نعوش الشهداء وجابوا الشوارع بها حتّى تجمّع عدد كبير من الناس في الجنازات، ثمّ اتجهوا لدفنهم في المقبرة التي كانت تقع بين قرية جباليا ومخيم جباليا الذي كان اللاجئين فيه بحالة من الغضب والتأجج احتجاجًا لحادثة الدعم، مما جعلهم ينضمّون لمسيرة الجنازات. دفنوا الشهداء وأخذهم غضبهم إلى مركز الشرطة الإسرائيلي الموجود بالقرب من المقبرة، فهاجموه بالحجارة ليكون الرّد بالنّار والبارود. سقط شهيد الانتفاضة الأول الذي كان من أبناء المخيّم (حاتم أبو سيسي)، ولكن قامت انطلاقة الانتفاضة الأولى التي كسرت ظهر المحتلّ وشكّلت العلامة الفارقة في تاريخ النضال الفلسطيني بعد أن انتشرت الاحتجاجات والمظاهرات في جميع أنحاء القطاع والضفّة الغربية واستمرّت حتّى تدخّل “رّجال البدلات” وخامدي الثورات، لإتمام اتفاقية أوسلوا بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
من مخيّم إلى معسكر في الانتفاضة الثانية
بعد انتفاضة الأقصى ( الانتفاضة الفلسطينية الثانية) عام ٢٠٠٠م، تحوّل اسم المخيّم إلى معسكر لأنّ مخيّم جباليا كان من نصيبه ثلاثة كتائب بعد تشكيل كتائب القسام ل “لواء الشمال” بقيادة أحمد غندور . هذه الحقيقة جعلت تركيز الاحتلال على هذا المخيّم بالشكل الذي نراه اليوم، لاعتباره أحد المعاقل الرئيسية للمقاومة الفلسطينية. وعلى إثر ذلك، قدّم هذا المخيّم الكثير من أبناءه في القيادات، شهداءً اغتالتهم إسرائيل لينضموا إلى قافلة الشهداء على طريق التحرير. ومنهم القائد البارز في كتائب القسام الذي ارتبط اسمه بمصطلح “المسافة صفر”، وهو الشهيد عماد عقل. والشهيد القيادي القسامي نزار ريّان الملقّب بشيخ المخيم وصاحب المقولة الشهيرة “لن تدخلوا معسكرنا يعني لن يدخلوا معسكرنا”.
ذاكرة جباليا ٢٠٠٣–٢٠٢٤
تضجّ ذاكرة هذا المخيّم بالأحداث التي أثبتت عصيانها على الانكسار بالرغم من وحشية المجازر والجرائم التي ترتكب في حقّ ساكنيه. كما أنّه أثبت قدرته على التصدّي للاجتياحات على مرّ السنوات، ابتداءً باجتياحي عام ٢٠٠٣، وعام ٢٠٠٤، ثمّ حرب الأيّام الستة المعروفة بمحرقة جباليا التي وقعت بين ٢٧-٢-٢٠٠٨م و ٤-٣-٢٠٠٨م وكانت حصيلتها ١٣٢ شهيدًا. تلتها معركة الفرقان عام ٢٠٠٩م التي نجح فيها رجال المقاومة الفلسطينية في مخيم جباليا باختطاف جنود إسرائيليين مما جعل المحتلّ يستخدم نصف سلاح الجوّ لتدمير المنازل بشكل هستيري معتاد، ولكن دون تحقيق أي أهداف ودون أيّ جدوى. أمّا عن صمود جباليا في معركة طوفان الأقصى فها هو يُنقل لكم ببثّ مباشر وعلى شاشات عالية الجودة. فالمحتلّ لم يكتفي بما فعله في بداية هذا العدوان، بل بدأ بفصل جديد من الإبادة الجماعية في هذا المخيّم ابتداءً من السادس من أكتوبر الحالي وحتّى هذه اللحظة. ومع كلّ هذا، يأبى هذا المخيّم الصّامد أهله على الانصياع والانكسار ليكون دائمًا شوكة في حلق هذا الاحتلال، وعصًا في متاريس مفرمته، وسدًّا منيعًا يُلجمه عن بقيّة القطاع.
خطّ الدفاع الأول وصمام الأمان لشمال القطاع
لطالما كان مخيّم جباليا بمثابة صمّام الأمان لبقية المناطق في شمال القطاع، حيث أنّه الملجأ والملاذ للنازحين من المناطق المجاورة في أوقات الاجتياحات أو في حالة حصول عمليات عسكرية في المناطق الحدودية. غير أنّ بيئته المتماسكة جعلته مركزًا رئيسيًا لقيادة العمل الوطني، وبؤرة لإفشال مخططات المحتلّ من اجتياحات برّية، وخططه لتهجير الشمال وإفراغه من ساكنيه،وتغيير التركيبة الديموغرافية فيه كونه يؤوي الكتلة السكّانيّة الأكبر في شمال القطاع. غير أنّه كان دائمًا بداية لانطلاق لجان الحماية الشعبية التي من شأنها التصدّي لخطط الاحتلال بنشر الفوضى والسرقة والفلتان الأمنيوسيادة العصابات. كلّ هذا جعل المخيّم معضلة حقيقية أمام دولة الكيان،وتماسكه هذا هو بمثابة حجر الأساس الذي بني عليه تماسك المدن والأحياء الأخرى في شمال قطاع غزة.
وفي الختام، فقد رأينا كيف أنّ هذا المخيّم قد عمّره اللاجئون لَبِنةَ لبنةًبإيمانهم الرّاسخ وتشبّثهم بالأرض، ورووا أرضه قطرة قطرة بدماء تضحياتهم ابتداءً من انطلاقة الانتفاضة الأولى من بين أزقته إلى حصاره الأخير الذي بدأ في السادس من أكتوبر الحالي. ورأينا كيف أنّ جباليا بمثابة فصل أسود يريد الاحتلال الإجهاز عليه والتخلّص منه إلى الأبد مهما كلّف الأمر، وذلك للتمهيد للسيطرة الكاملة وخلق حالة من الردع الشامل لكل مناطق شمالي القطاع، مما سيسمح بمساحة للعمل دون بؤرة إجهاض وتصدّي لخطط الاحتلال. كما أثبت لنا أهالي هذا المخيّم قدرتهم على الصمود الأسطوري الذي يفوق الوصف والتخيّل، أمام أبشع أساليب الإبادة التي اعتمدتها قوات الاحتلال من قتل جماعيّ واعتقال وتجويع وتهجير. صمودهم هذا أثبت المسؤولية الذاتية والمجتمعية التي يحملها أهالي المخيم لمعرفتهم جيدًا بمكانة مخيمهم ومحوريّة دوره في مسار النضال الوطني نحو التحرير. كما أنّ صمودهم الذي حمل بمضامينه رسالة لكلّ من اتّهم الشعب الفلسطيني بالتخلّي عن الأرض، دليل على وحدة أهله ورفضهم الجماعيّ للنزوح تبنّيًا لفكرة الثبات على الأرض والتمسّك بها، فإما النّصر والثّبات وإما الشّهادة والجنّة.