لن تبقى مصر التي تعرفونها بطول التاريخ السابقِ على تموّجاته، ولو قياسًا على أحقر المحطّات وأبشعها، بما في ذلك الاحتلالات والمجاعات والهزائم قاسيها قبل هيّنها، لا تاريخًا وتراثًا، ولا علمًا ومعرفةً، ولا هيبةً وردعًا، ولا فنًّا وثقافةً، ولا حتى جغرافيا ثابتة قبل رسم الخرائط وتعريف الدول؛ كلّ ذلك سينتهي لا محالة، والحاصل الآن ليس تجلّيًا أخيرًا بعد، إذ القادم أبشع، والمخطوط الذي يُنفّذ لن يتركَ فيها حَجَرًا ولا حياةً ولا معنى.. سيهدمُ هذا البلد كلّه، ويسحق ناسه كلّهم، ولو استطاع أن يمحو اسمها ووجودها من فوق كرسيّ حكمه لفعل.
والصارخون الآن -وأنا منهم- لإنقاذ ما بقيَ من بناءات تراثيّة أو معالم تاريخيّة، أو لوقف انتزاع الروح من جسد هذا الوطن بالقضاء على كلّ ما هو أخضر وحيّ بعداءٍ مرعبٍ وكراهيةٍ دنيئة، أو حتى محاولةً لتمرير فيلمٍ منعته الرقابة أو إطلاقِ فنّانٍ باعته السلطة ضمن ما باعت (العقد يقول كامل الأرض بما في باطنها وما عليها)، كلّ هؤلاءٍ سبقَ أن اختُبروا في الأيّام الأول لهذه الحقبة الدمويّة، وتواطأوا أو صمتوا أو فرحوا أو صرخوا، لكنّهم لم يستطيعوا إيقاف المجازر أو حتى تخفيفها بروحٍ أو جثمان.
و “التطبيع مع المظالم يورثُ النّفسَ الذلّة “، فما بالك والمُطبّعُ مجتمع، والمظلمة سحقت شعبًا كاملاً لم تترك منه واحدًا إلا طالته، كيف تنتظر منه الآن أن يقول أو يفعل، وقد رضيَ بالخرسِ في كلّ ما فات؟ أتعتقد أن الصامت على الدم سينطق للحجارة؟ أنّ تارك الأرضِ بجزرها وموانيها سينتفض لأجل قرافة؟ أيُّ خبالٍ أوصل الذين يراهنون على الانتفاض لأجل الشجر والكلاب والمدافن لما أوصلهم له؟
لا تنزاحُ حكاية “سيّدة النمل” عند عمّنا إبراهيم عبد المجيد من ذهني كلّما تابعتُ انهيارَ الناسَ بكاءًا وعويلاً خلفَ بنيان تاريخهم الذي يتابعون تهديمه على الهواء، كأنّ ما دلّهم على الخراب الأخير إلا “دابّة الحكم تهدم مقابرهم” كأنّما يتداعى وجود المصريّين تمامًا، لا بالقتل الذي حصد الآلاف منهم، ولا من المعتقل الذي نهش حيوات عشرات الآلاف ومازال، ولا من الجزر التي أُسلمت للعدوّ كما أُسلمَ الأهل للإبادة ولا من المرض الذي لم يعد لهم مشفى يعالجون فيه، ولا من بقيّة الكوارث التي لم تتوقّف هطولاً وسمومًا، لكن تهدّم بنيانهم ذاك، وهم يرونَ تراثهم ومقابرهم وعظام آبائهم تتهدّم دون أن يستطيعون وقف جنون هدمه ذاك، كأنّه التكشّف الأخير لحقيقة ما تهدّم من حيواتهم ومستقبلهم ومعناهم ووطنهم في السنين العشر المليئات بالموت والهدد.
وسط حديثٍ طويلٍ متشعّب، على هامش إضرابها عن الطعام، قلتُ للدكتورة ليلى سويف ” لم يتجلّ الخراب الأخير بعد، لقد حدث وانتهى، لكنّ تجسّداته الكاملة مرعبة، أبشع بكثير مما يحدث، وسيُفاجئنا بسقوطٍ مزلزل يتهدّم فيه كامل البنيان على رؤوس الجميع”، فردّت بأسى: “التفجّر الأخير، قد يُفيق فيُنقذ، لكنّنا ذاهبون إلى التعفّن، طبقةً طبقةً، ومؤسسة مؤسسة، تعفّنًا كاملاً ممتدًّا سيشمل الكل، دون فرصة واحدة لإدراك أنها انتهت”.