سياسة
لم يكن السنوار قائدا عملياتيا عاديا لكتائب عز الدين القسام، ولا خلفا مباشرا لمدير المكتب السياسي المغتال لحماس إسماعيل هنية. يحيى السنوار زئبق خفي ستطارد صورته إسرائيل وجيشها وحتى مستوطنيها إلى الأبد. حقيقة أؤكدها للأسباب المنطقية التالية:
السنوار دمر لإسرائيل خُدعة احتواء القطاع
إبان الاعتداء على بيوت حي الشيخ جراح ٢٠٢٢، كان الهدف الرئيسي للمقاومة الردَّ على حصارها وأهل غزة بهجمات حقيقية نفذتها بالصواريخ والراجمات بدفقات هائلة طوال فترة استبسال الفلسطينيين في القدس والأحياء المختلطة والضفة الغربية. أججت هجمات الفصائل آنذاك من غزة نصرة للقدس والضفة عنف إسرائيل ضد المدنيين، فضلا هن محاولة قصف قيادة كتائب القسام في غزة. كان تكتيكا ملهما من فصائل المقاومة الفلسطينية، لأنه بشكل أساسي وحد الجبهات الفلسطينية إلى جبهة واحدة شبه متزامنة في المناطق الثلاث، وغيّر قواعد الاشتباك في كل الجبهات المفتوحة. إسرائيل تعلم أن ما قبل السابع من أكتوبر بعامين واستئسادها على فلسطينيي الشيخ جراح والضفة قاموا ولن يعودوا إلا بالحق الفلسطيني كاملا، والاستبسال المتناغم بين الضفة والقطاع. تحرر الفصائل من استراتيجية إسرائيل ”الاحتواء“ فتحت كل باب لكل أشكال المقاومة. الانفصال الجغرافي بين الجبهتين شتت إسرائيل ووحد القطاع مع القدس والضفة. هذا الربط العقائدي في المقاومة على ثلاث جبهات مهد الأرض لعملية ”طوفان الأقصى بشكل عملي.
إسرائيل تتحسب للسنوار
قبل قتل القائد يحيى السنوار، كانت إسرائيل تعلم أن قيادته للقسام لن تمر بهدوء. فالرجل قضى أكثر من عقدين في السجون الإسرائيلية وخرج في صفقة عصيّة باستبداله بجلعاد شاليط الجندي الإسرائيلي. لم تكن إسرائيل تدرك أن عديدا من جنودها سيُقتل حين يكون السنوار قائدا للعمليات. السياسات اليمينة لحكومات إسرائيل المتعاقبة وتشبث بنيامين نتنياهو ومراوحته دائرة اتخاذ القرار أودى بإسرائيل وجيشها إلى اللا عودة، حتى مع غيابه عن رئاسة الوزراء وانتزاعها منه مناصفة بين نيفتالي بينيت ويائير لابيد، نجح نتنياهو في تفتيت هذا الائتلاف. استجابت إسرائيل فغي عام ٢٠٢٢ للهجمات المتوالية للفصائل من غزة مناصرة لإخوانهم في الضفة والشيح جراح والأراضي المختلطة شمالا في النقب وحتى القدس الشرقية بإجراءات محددة:
السنوار المباغت
فهم السنوار أن قيادته للعمليات ردٌ عن لسان حال السلطة الفلسطنية الموات. فَهِمَ أن ما فشلت فيه السلطة ومنظمة التحرير في مسارات التفاوض اللانهائية، وأن تجميد المفاوضات إلى ما لا نهاية يشرعن للمقاومة المسلحة، وهو ما سابق واعترفت به حتى محكمة العدل الدولية التي قننت كل أشكال المقاومة لحركات التحرر الوطني فيما فيها المقاومة المسلحة. قرأت القيادة السياسية للفصائل متمثلة في الراحل إسماعيل هنية إرهاصات مع قبل الطبيع العلني والفاضح التي حدى بأطرافها للتطبيع وتحييد القضية الفلطسينية تماما. ما جرى في حي الشيخ جراح في القدس وشى عن قصد يأن القيادة العملياتية في غزة على أهبة الاستعداد لإمطار القبة الحديدية ومن يستظل بها كالحمم. ثم انقض السنوار بهجوم محسوب تكتيكيا في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. باغت السنوار والمقاومة إسرائيل ومجلسها المصغر (حكومة الحرب) والتي حتى لحظة كتابة هذا المقال تستميت في الوصول إلى حسم نهائي لم تطله.
السنوار رأس الحربة
منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ طأطأت إسرائيل أمام الهجوم الفائق لكتائب القسام وفصائل المقاومة في غزة، حتى إنها لم تتمكن إلا بعد ما يقارب العام من الإقدام على تنفيذ توغل بري. يعود ذلك إلى تقدم العمليات الفلسطينية وأسلحتها للحد الذي ثبُت فيه تقهقر إسرائيلي وانسحاب من مواقع مهمة. والعودة إلى الاغتيالات للقيادات العملياتية والسياسية. اغتالت هنية ونصر الله وأخيرا قتلت السنوار على الأرجح دون استهداف مسبق وإنما في عمليتها الشاملة لإبادة غزة إبادة جماعية وتسويها بالأرض. عززت المقاومة من قدراتها الصاروخية بداية في مدينة سديروت وبلدات بيت جالا و قطنة في العمق الإسرائيلي، بإطلاق ألفي قذيفة صاروخية في اليوم الأول، كما قام مقاتلو الحركة بعمليات تسلل نوعية محسوبة في المدن والبلدات على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل.. طورت حماس والجهاد نوعية الصواريخ المستخدمة وتضاعف عدد قذائف وصواريخ حماس بحلول الظهيرة ليصل إلى خمسة آلاف صاروخ وقذيفة، أتبعتها لاحقا بأربعة آلاف صاروخ إيذانا ببدء عملية حاسمة.
السنوار قائدا
كسبت الفصائل مقدما باستبدال يحيى السنوار بالجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، واختيار السنوار قائدا للجناح العسكري في غزة في ٢٠١٧. عزز إعلان السنوار في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ عن الرشقات الأولى والرسالة لإسرائيل معتبرا إياها مجرد بداية. تبعد ذلك إعلان آخر لقائد كتائب عز الدين القسام محمد الضيف، عن بدء العملية في العمق الإسرائيلي تحت اسم «طوفان الأقصى» ردًا على «الجرائم الصهيونية» بحق المقدسات، لافتًا بدوره لكونها فقط مرحلة أولى، وستليها مراحل أخرى. عززت ذلك مقاطع مصورة بثتها القسام لمشاهد حية لإزالة الجدار الإسرائيلي الفاصل شرق مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. كذلك تداولت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو ينسب لفلسطينيين من قطاع غزة يوثق هروب عشرات المستوطنين بعد الهجوم المباغت لحماس على مستوطنات القطاع. ونشرت حماس فيديو قالت إنه لاستهداف دبابات إسرائيلية من طراز ميركافا 5 المتطورة والمستخدمة حديثًا من قبل تل أبيب على حدود القطاع مع إسرائيل، وأعلنت قتل الجنود الإسرائيليين فيها وأسر آخرين. كما نشرت الناشطة الفلسطينية، مريم البرغوثي، وآخرون صورة لمعبر إيريز وقد فُتح من جهتيه بين غزة وإسرائيل. مضادات الدبابات والطائرات التي طورتها الفصائل.
السنوار والترسانة الصاروخية
لطالما تباهت إسرائيل بأنها متفوقة على الفصائل الفلسطينية خصوصًا حماس، لامتلاكها ترسانة من سلاح الجو الأمريكي الفائق والطائرات المسيرة، فضلًا عن أنظمة استخباراتية متقدمة وإحداثيات دقيقة لمواقع حماس العسكرية. ومع ذلك خلال العامين الفائتين وحدهما، تمكنت «القسام» أكثر من مرة إبان أحداث الشيخ جراح في مايو 2021 وأبريل 2022 من استخدام تكتيكات نوعية استغلت فيها ترسانة هائلة من القذائف والصواريخ محلية الصنع، يبدو أنها في تطور مستمر بعيدًا عن معلومات إسرائيل الاستخباراتية. وأسقطت قذائف حماس اليوم -وقبل عامين- الدفاعات الإسرائيلية مخترقة القبة الحديدية التي كلفت إسرائيل أموالًا طائلة.
ترسانة حماس الصاروخية تشمل مجموعة نوعية من صواريخ أرض-أرض وصواريخ مزدوجة المحرك على غرار كورنيت المضادة للدبابات، والتي يعتقد إلى حد بعيد أنها هُربت عبر الأنفاق بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. أما عن الصواريخ محلية الصنع، فيعتقد أنها طُورت داخل قطاع غزة باستخدام تقنيات إيرانية.
واللافت في هجوم السبت، أن الصواريخ المستخدمة ليست كلها من نفس الطراز أو مدى الإصابة، بل تفاوت مداها بين صواريخ «القسام» قصيرة المدى (10 كيلومترات) والقدس 101 (16 كيلومترًا) ونظام صواريخ جراد (50-55 كيلومترًا) وصاروخ سجيل 55 (55 كيلومترًا)، فضلًا عن قذائف الهاون، سلاح الفصيل التقليدي.
كما يشي هجوم السبت أيضًا بتطور نوعي في حيازة حماس صواريخَ طويلةَ المدى على غرار إم 75 (75 كيلومترًا) وفجر (100 كيلومتر) و160 آر (120 كيلومترًا) وصواريخ إم -302 إس التي قد يبلغ مداها 200 كيلومتر.
ويؤسس ذلك لتطور آخر، يُحسب له من حيث التفوقُ خلال العامين الماضيين، إذ يبدو أنه جرى تخزينُ أعداد كبيرة سابقًا، نظرًا لعدد قذائفها صباح اليوم، حيث وصل عددها إلى خمسة آلاف.
السنوار وخديعة سيف القدس
حماس بجناحيها السياسي والعسكري، خصوصا بعد تولي يحيى السنوار القيادة في ٢٠١٧ حبكت خدعة بعناية، مفادها أن الفصائل (حماس والجهاد) لا تسعى للتصعيد بعد معركة ”سيف القدس“ ٢٠٢١. اعتقدت إسرائيل أنها أحكمت الردع والأمن المستتب لها في غزة، وكانت سقطتها الكبرى.
السنوار والمسافة صفر
سيخلد تاريخ النضال والتحرير في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن يحيى السنوار وقادته طوروا ثلاثة أساليب أفقدت إسرائيل أكذوبة قوتها حتى بكل ترسانة الأسلحة الأمريكية والغربية الفائقة. ابتكرت الفصائل وقادتها: ١) تكتيك الصدمة، ويشمل المباغتة وتدمير الآلية الحربية الإسرائيلية الثقيلة، منها الدبابات والجرافات والمدرعات الثقيلة، إضافة للهجمات الصاروخية في العمق الإسرائيلي. ٢) المسافة صفر وهي الاقتراب لمسافة لا تذكر من المدرعات أو المصفحات أو الدبابات المراد ضربها، وتستخدم أسلحة مضادة للدبابات والأفراد والدروع وتعد ضمن العمل الفدائي. ٣) تكتيك اللدغة ويعتمد على ضرب الهدف والانسحاب فورا. واستخدم فيه مقاتلو المقاومة قاذفات RPG F7، كما استخدمت قذائف التاندوم والعبوات الناسفة شديدة الانفجار، وياسين ١٠٥ الخارقة للدروع وقد استخدمت بالأساس لتفجير مردعات ”مريكافا“ التي تباهت بها إسرائيل. كذلك استخدمت المقاومة بقيادة السنوار وضيف صواريخ ”كورنت“ لضرب مدرعات ومصفحات ”بانثر“ الحاملة للجنود والإسرائليين. ٤) تبقى أنفاق غزة عفريتا يخايل إسرائيل ويشتتها. ففي العمليات الناجعة منذ أكتوبر الفائت، أصبحت المناورة بالأنفاق والاختباء فيها سلاحا استراتيجيا يكاد يجن نتنياهو وأجهزة استخباراته لمعرفة مخابئه وسره.
السنوار والقبة الحديدية
قبل أكثر من عامين، في مايو 2021، واجهت وسائل الإعلام الإسرائيلية النخبة الحاكمة -سيما في وزارة الدفاع- بفشلهم الذريع بالتنبؤ بالهجوم الذي أتى من قطاع غزة أيضًا إبان أحداث الشيخ جراح في القدس الشرقية، حيث اعترضت القبة الحديدية الإسرائيلية أقل من 90% من الصواريخ التي دخلت المجال الجوي الإسرائيلي آنذاك.
وعُزي ذلك لفشل بطارية القبة الحديدية التي تتولى الدفاع عن مدينة عسقلان في العمل واعتبارها خارج الخدمة بسبب عطل فني وفشل في التنبؤ بالعملية الفلسطينية آنذاك. ولكن تكرر ذلك بشكل أقسى في هجوم السبت من قبل حماس، إذ لم يكن فشل أنظمةُ الدفاع الجوي ولا خططُ الدفاع الإسرائيلية بقصف مخزون حماس مسبقًا أو أماكن تصنيع الصواريخ أو حتى دحر الهجوم بعملية برية نوعية سريعة أمرًا في الحسبان الإسرائيلي، خاصة مع محدودية مساحة قطاع غزة وعدم وجود مهرب للفلسطينيين بداخله خاصة المدنيين منهم، يحميهم من عملية انتقامية إسرائيلية.
وفتح الجيش الإسرائيلي سابقًا تحقيقًا في مدى نجاعة القبة الحديدية والسبب في فشلها في درء الهجمات المسلحة من قطاع غزة. واستعاضت إسرائيل عن القبة بمنظومة الدفاع الجوي الصاروخي «مقلاع داوود» في التصدي لصواريخ حماس. وقال مصدران في الجيش الإسرائيلي إنه جرى بنجاحٍ استخدام مقلاع داوود عمليًا للمرة الأولى في مايو من العام الجاري أثناء اقتتال عبر الحدود مع مسلّحي غزة. لا تتغير قواعد الاشتباك؟
السنوار يغير قواعد الاشتباك حيا وميتا
من كل ما سبق، يبدو جليًا تفوقُ الذراع العسكري لحركة حماس في تغيير مسار الاشتباك المعتاد بين الفصائل المسلحة وإسرائيل حتى مع سلسلة الاغتيالات بحق القيادات العملياتية في غزة ولبنان، إذ نجح السنوار وضيف بالمناورة وتشتيت الانتباه في تسجيل نقطة على إسرائيل أكتوبر ٢٠٢٣، وعلى أنظمتها الدفاعية والاستخباراتية من جانب، وتشتيت انتباهها عن لب العملية الحقيقة من جانب آخر. على الرغم من إصرار إسرائيل على الإبادة الجماعية وتواطؤ الغرب والحكام العرب فيها، فلن تتمكن من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستهداف منصات إطلاق الصواريخ التي هاجمتها بدقة، حتى لو وجدت كل الأنفاق وسوت المدن بالأرض. ستبقى نقاط انطلاق المقاومين سرية وسيبقى الفشل الاستخباراتي عارا وسيبقى السنوار شبحا يطارد إسرائيل.