تجارب

بين المقياس البشري والمقياس الإلهي

أكتوبر 18, 2024

بين المقياس البشري والمقياس الإلهي


في المقياس البشري والمدى البصري المحدود فإنّ هنالك أكثر من 200 ألف فلسطيني بين شهيدٍ وجريح ومفقود، وهذا عددٌ كبير جدّاً بالنسبة لتعداد سكان قطاع غزّة المحدود جغرافياً، بمعنى أنّه ما من عائلة إلا تجرّعت من كأس الفقد والوجع .في المقياس الإلهي يختلف الأمر هنالك شهداء أحياء سعداء، وهنالك جرحى صابرون، ولا أقولُ بأنّهم صابرون جزافاً، فالعجيب أنّ الفئة التي يغلب عليها عدم الصبر هي الفئة التي لم يصبها أذى أو قرح خاصّةً على صعيد النفس البشرية، في آخر تسجيل مصوّر للصحفي فادي الوحيدي كان صابراً يحمد الله عز وجل ويتمنى لو يستطيع أن يستمرّ في التغطية حتى ولو على كرسيه المتحرك، وكان صوته يشعّ ثباتاً وجسارة، لم يخبرنا أحدٌ بذلك عنه ولم يتمّ تدليس التسجيل، كان يتحدث مباشرةً لنا بصوته وصورته.


التقيت مرّةً أثناء نزوحي بامرأة تحمل أوراقاً تريد تقديمها من أجل علاج ابنتها، يبدو أنّها شعرت براحة معي فأصبحت تحدثني تلقائياً عمّا جرى معها، تقول سقطت قذيفة على منزلي فاستشهدت ابنتي المهندسة وحمدت الله من فوري ثم أصيبت ابنتي الثانية وكانت إصابتها خطيرة، تقول سألت الله عز وجل أن يختار لها ما هو الخير لها وأنا راضية، فتعافت ابنتها وزال عنها الخطر، تخبرني أنها طلبت من الأطباء أن أدخل العناية المركزة ونظرت لها ودعوت وقرأت لها الفاتحة 7 مرات عليها وبعد أن كانت إصابتها خطيرة تحسّنت وتجاوزت الخطر وها هي تتعافى، كانت ثابتةً وصابرةً وراضية تلك المرأة التي لا أعرفها والتقيتها نازحةً في جنوب غزّة.


الحقيقة أنّ المقياس البشري دائماً مصاب بالخلل والترنّح والنقصان، بينما المقياس الإلهي هو مقياس الكمال المطلق، والحقيقة الأكيدة تماماً أنّ المرابطين في شمال غزّة هم ليسوا مرابطين لعيون حزبٍ ما، ولا ينتمون لفصيل بعينه، إنّهم ينتمون لهوّيتهم الفلسطينية، لا يريدون الخروج من بيوتهم لأنّها ببساطة أرضهم، مَنْ ألقى في قلبهم هذا الثبات العظيم؟ بالتأكيد هذا صنع الله في قلوب عباده، وهذا تثبيته والسرّ في هذه الآية القرآنية الجميلة “يا أيها الذين آمنوا إنْ تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم”، يعني السرّ في النيّة، أنا موجود في أرض فلسطين هذه الأرض العظيمة على الله عزوجلّ كل دقيقة بها أحتسبها رباطاً لوجه الله تعالى، بمجرّد أن تحقق (إن تنصروا الله) يتحقق جواب الشرط (ينصركم) والجميل أنَّ ربنا قال (ويثبّت أقدامكم)، لماذا اختار هذا التعبير (يثبّت أقدامكم)؟ لأنّ ثبات الأقدام والوقوف في وقت النوازل العظيمة يحتاج مدداً إلهياً وليس فعلاً بشرياً مجرداً، الإنسان بطاقته المجرّدة لا يمكن له أن يثبت دون المدد الإلهي، ماذا يعني هذا؟


يعني أنّ هنالك 600 ألف فلسطيني يقفون الآن في شمال غزّة بالمدد الإلهي، ما أعظمَ هذا، لأنّه ما من إنسان يستطيع أن يحتمل ما يحدث الآن في جباليا ولكنّ هذا المخيم الصغير يخوض هذه المعركة الكبرى ثابتاً بمدد الله، فأيّ كرامةٍ هذه، وأيّ رفعة!


في المقياس البشري كل ما حدث خطأ ومتسرّع، حسناً نتفق مع هذا نظرياً، لكن عقدياً (لا)، كلّ أولئك الذين يخوضون حرباً إلكترونية في نشر نظرياتهم حولنا لتشويه صورتنا كشعب مقاوم هم يضعون كل طاقتهم في ميزان المقياس البشري، لأنّهم لو وضعوها في ميزان الله عزوجلّ لفهموا أنّ موازين الله دقيقة خاصّة مع عدو توعّده الله في القرآن الكريم وتحدث لنا عن حتمية زواله، فيغمضون أعينهم عن آيات الله ويفتحون أعينهم لهوى أنفسهم وأبواق الشياطين وحب الدنيا وشهواتها.


ولا يعني أن نبصر المقياس الإلهي أن نغفل عن حقّنا في الحياة، واستحقاقنا لها، وقولنا لا للإبادة الجماعية، لكن عدوّاً في عقيدته أن قتله لنا حياة له، علينا أن نعيد النظر في طريقة تفكيرنا والتي قد تنصر الاحتلال دون إدراكنا لذلك . في المقياس الإلهي (الإنسان الصابر) يصلّي الله عز وجلّ عليه يعني هو يجاور في هذه المرتبة مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف؟


“الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”. يعني الله عزّ وجلّ يصلّي على الصابرين الذين استرجعوا الله وليس صلاةً بل صلوات وأيضاً رحمة والعجيب أن الله عز وجل لم يقل في ختام الآية أولئك هم (الفائزون) بل (المهتدون)، يعني الذي يسترجع الله في مصيبة ويعرف أنها مقدّرة عليه مهما اختلفت الأسباب ذلك إنسانُ مهتدٍ مستبصر، والذي لا يفعل ذلك ويكتفي بالتذمر والسخط حسب المقياس الإلهي في هذه الآية هو (أعمى بصيرة).


“إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما” وبهذا يصلّي الله على نبيه ويصلّي الله على الذين صبروا على ما قضى الله عليهم من مصائب.


في المقياس البشري: غزّة وحيدة مظلومة منهكة مخذولة..

في المقياس الإلهي: يصلّي الله عزّوجل على أهلها وينزل عليهم الرحمة..

في المقياس البشري: يبدو المحتلّ معربداً منتصراً..

في المقياس الإلهي: هو خاسر لا محالة “فانتقمنا من الذين أجرموا، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين”..

في المقياس البشري: الأسباب منقطعة تماماً عنا في غزّة..

في المقياس الإلهي: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين”..

في المقياس البشري: البصر بالعين لكل ما تراه على أرض الواقع أمامها، والقلب عضلة لتوزيع الدم على سائر الجسد..

في المقياس الإلهي: البصر ليس بالعين، بل بالقلب، يقول الله عزّوجلّ “فإنّها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”..


نسأل الله أن يجعل قلوبنا مُبصرة، ويجعلنا شهوداً على إحقاق وعده بنصر المؤمنين، وأن يكتب لأهل غزّة خيري الدنيا والآخرة … آمين.



شارك

مقالات ذات صلة