آراء
في ذلك اليوم وما تلاه، هاجت الدنيا وماجت، لم يكن أحد يتخيل أن تكون الغنائم إلى ذلك الحد، كما لم يكن أحد يتخيل أن تكون المغارم إلى ذلك الحد، متناقضات بعضها يدفع بعضا، وأمور عظام لم يرها أحد من قبل، ولم يسمع عنها ولو في سيَر الخالدين، ولعل أعلم القوم عرف عن شبيهاتها نبذات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الموقف غير الموقف، والزمان غير الزمان، والشدة أثقل على الولدان، والحدث أكبر من أن يفسر، لأنه بالأصل أكبر من أن يُستوعب، لأنه بالأصل كان أكبر من أن يُتخيل، ولو في أزهى رؤى الحالمين، والأمر عصيب، شيء ما بين القيامة والجنة، خط ما بين الدنيا والآخرة، خيط ما بين الحقيقة والخيال؛ منذ صباح السابع، ولم تعد الأمور على ما هي عليه أبدًا، بل تكاد الأمور لم تكن من قبله شيئًا!
توزع الفتية المقاتلون كلٌّ في جبهته دون أن يتخلف واحد، ونظر العزّل إلى السماء لتبقى أعناقهم معلقة بها منذ أكثر من ثلاثمئة وسبعين يوما، تقطفهم السابحات الشريرات فيها عنقا بعد عنق، وتقطع أوصالهم وتهشّم جماجمهم، وتجبرهم جماعات وفرادى على النزوح إلى حيث اللامكان، إلى الأمان الوهمي، إلى سراب لم يؤمن به أحدهم، لكنهم دفعوا إليه دفعا، مهجَّرين ومرغمين على الذهاب، يشدون الرحال بلا زاد، ويتشظون بين الأحياء والبلدات، ولا أحد يسير بأسرة كاملة، ولا عائلة تجتمع في مكان واحد، ولا أهالي الأحياء يقصدون الأحياء التي يحفظونها، ولا أحد يفهم أي شيء، من زخم النيران ووقع الرصاص وتوحش الغارات، والعدوّ ماضٍ في إبادته لا يعبأ بأعمار المرتعدين في الأسفل، ولا يعبأ بجنسهم، أطفال ونساء ورجال، الجميع يأخذ نصيبه، إن كان موتًا سريعا، أو موتا بطيئا بالنزوح والجروح.
لكن كل تلك المحاولات الإسرائيلية -التي أجبرت آخرين قسرًا دون أي خيار- بقي عصيًّا عليها شعبٌ آخر في شمال غزة، دفع ثمن خياره من لحمه، فشد النطاق على بطنه، وقال إني مرابط هنا، لن أتحرك ولو على نقالة، وإن مت فلا تدفنوني إلا في الشمال، أو كما قال رشدي السراج: “لن نرحل إلا إلى السماء.. السماء وفقط”، وكانت تلك المعادلة لها ثمنها، فكان الرحيل إلى السماء أقرب لكثيرين منهم من الرحيل إلى الجنوب، كان الإصرار حقيقيا لا يحتمل المجاز، وكان الانتقام حقيقيا لا يعتبر بالمجاز أيضًا.
ولم يبقَ في الشمال إلا نحو ربع مليون إنسان، ما يعادل نحو معشار سكان غزة، بينما التسعة أعشار الآخرون في الجنوب وبعض الوسط، ليدفع أهل الشمال الضريبة الأقسى في حرب التجويع، فأكلوا العلف وورق الشجر، وشربوا من مياه البحر، ومات بعض الصغار جوعا، وهزلت أجسام النساء والرجال حتى التصقت جلودهم بعظامهم وانصهرت شحومهم، ودفعوا الثمن الأكثر رعبًا في اجتياح مناطقهم ومخيماتهم وبيوتهم، فأعدم منهم ميدانيا من أعدم، وصفيت عائلات كاملة، فضلا عن تسوية شوارع ومربعات وأحياء بالتراب، وفي كثير من الأحيان، على من فيها.
وعلى مدار عام كامل، وبرغم ما تعرض له من ثلاث اجتياحات تحت تصنيف عمليات عسكرية كبرى برية منظمة، ونحو 15 حملة لمحاولة التقدم وكسر شوكة المخيم “الولَّاد”، بقي جباليا هو تلك الصخرة التي تتحطم عليها أوهام العدو وطموحاته، رغم ما كرره من ادعاءات بأنه قضى على المنطقة ومن فيها من المقاومين، لكنه يعود ليكذب نفسه طيلة 12 شهرًا بألف تقدم وتقدم، بحثا عن ذلك الشبح الذي قال إنه قتله للأبد!
ظل الشمال، وبالقلب منه جباليا، هو ذلك الصداع الذي يريد الاحتلال التخلص منه، تلك العقبة الكبرى التي تحول بينه وبين “احتلال نصف غزة” رسميا، الحائل الكبير الذي يعوقه عن تنفيذ مخطط التهجير، السد المنيع ضد محاولة إفراغ أكثر غزة من أهله، ثم وضع حدود جديدة تكون غزة بها قد انكمشت إلى النصف، ثم تعال لنتفاوض! فبقي “جباليا” وبنوه، وإخوانه، هم تلك الحجارة التي تسد تلك الطريق القبيحة، التي لا طاهر فيها إلا الدماء التي سالت عليها كي لا يعبر الغزاة، وقالوا حرفيا “على جثتنا”، فكانت بالفعل “على جثتهم” ولم يمروا.
وبين جباليا وجبل الرماة أرى ذلك الخيط الرفيع الواصل بين أبعاد التاريخ والسيرة والمحنة، لأرى الرماة الذين كانوا مكلفين بالثبات حتى يحموا -فعليا وقتها- دين الله، ودعوته، وظهر رسوله، وقد نزلوا إلى جمع الغنائم ولم يثبتوا على الجبل، فكاد يُقتل فيها رسول الله، ولتكون الغزوة التي عرفها التاريخ الإسلامي بأول هزيمة للمسلمين، وكان السبب باختصار هم هؤلاء الذين لم يلزموا الجبل، ولم يسمعوا التعليمات، لأرى اليوم صحابةً آخرين، ليسوا بصحابة تماما، لكنهم أحبوا النبي كحب الأوائل له، وهم يثبتون على جبل الرماة، لم يبرحوه ولم يراوحوه، ليحموا من “جباليا” وحدها ظهر أمة كاملة، مكشوفا عن آخره!
وكما كتب أحد قناصة القسام ذات يوم في خضم المعركة، تحت سلاحه، تصرفًا من قصيدة للشاعر السوداني محمد عبدالباري:
“وسنبقى على جبل الرماة وخلفنا
صوت النبي يردد..
لا تبرحوا، لا تبرحوا”.