سياسة
لكل دولة أو إمبراطورية أو وطن عاصمة، وعاصمة عالمنا العربي الآن هي جباليا. بالعادة تعرف العواصم بثرواتها، بسلطاتها، بجيوشها، بقوتها. لكن ليس جباليا. جباليا عاصمة بلا مال، بلا جيش. لكنها ليست فقيرة، وليست ضعيفة. ثروتها أهلها وقوتها عقيدتها وصبرها ومقاومتها.
آخر ما أريد اليوم، في الوقت الذي يقوم فيه رمز الشر في القرن الواحد والعشرين، نتنياهو، بتنفيذ خطته الإرهابية والدموية، “خطة الجنرال” لتركيع شعبها، تهجيرهم، والقضاء عليهم، أن أقوم بالتمجيد والفخر، حتى أغفل الأنظار عن الكارثة التي تحدث، وحمامات الدماء التي تسيل، أو أن يكون المجد والفخر بديلا عن التأثر والألم وتسليط الضوء على معاناة أهلها، في الوقت الذي لا نعلم من، وكم سينجو منهم.
بالعكس، في هذا الوقت المليء بالمجد والبؤس معا، أهدف لتسليط الضوء عليهم، ولكن ليس كضحايا بلا تأثير ولا قرار. لتسليط الضوء على محوريتهم ليس فقط لوطنهم ومقاومتهم، بل لأوطاننا ولمقاومتنا. قد تبدو كتابتي كلاما مرسلا يهدف لتمجيد شعب وقضية تحرك وجداني، ووجدان أكثر عالمنا العربي.
لكنها ليست كذلك. فأنا أقصد عمليا ما أكتبه. منذ تأسيس دولنا الحديثة – بعد التحرير- هدف الاستعمار التقليدي لإخضاع دولنا جميعا له من خلال الاستعمار الجديد، واحدة تلو الأخرى. وللأسف الشديد، مع مرور كل عام وكل حقبة، تزايدت سيطرته على أوطاننا. فلنأخذ مصر، التي كانت حجر أساس المنطقة يوماً كمثال. ففي عهد عبدالناصر-مهما كان رأينا به- فإنه حارب الاستعمار بشتى الوسائل. فأمم القناة، وحارب إسرائيل. ثم أتى السادات من بعده، ليحارب إسرائيل، لكنه خضع لها بدرجة- إن لم تجلب الخراب على مصر مباشرة- إلا أنها كانت الطعنة في قلب العرب، حين أمضى اتفاقية كامب دايفد، التي أنهت عصر اتحاد العرب ضد إسرائيل، ومهدت الطريق لما نشهده الآن.
ثم أتى عهد حسني مبارك، والذي على الأقل، عمل على استرداد طابا. لم يدم عهد مرسي كثيرا حتى نحكم عليه. ثم عهد السيسي، الذي سلم مصر وفلسطين لإسرائيل، بالتنازل عن تيران وصنافير، بالقضاء على جميع الأنفاق، بإنهاء المعارضة الداخلية، والقبض على من يجرؤ أن يرفع يافطة أو يتبرع بجنيه…حتى بات شريكا رئيسيا في تسليم غزة وإبادتها وإخضاع أهلها بإطباق الحصار عليها.
خذ إلى جانب مصر دولا مثل المغرب التي تحبس النشطاء لمجرد إبداء آراء ضد التطبيع، والإمارات والأردن اللاتي تمدان إسرائيل بالزاد في وقت تموت فيها غزة جوعا. هذا إلى جانب رام الله والسلطة الفلسطينية، التي أصبحت شرطي إسرائيل الذي يقوم بإخماد المقاومة بدلا منها.
إلاً غزة، إلا جباليا، قلب المقاومة وقلب غزة.
\
رقعة صغيرة لا تبلغ ٢ كيلو مترا مربعا قامت بهز العالم، وربما تغيير خريطته. بأسلحة بسيطة يدوية الصنع، تحارب جباليا تريليونات وأسلحة وجيوش أقوى إمبراطوريات في العالم. من الدوحة إلى باريس إلى القاهرة إلى واشنطن، يتناقش قادة العالم، ما العمل؟ تسير الشعوب في مسيرات، يقوم جندي أمريكي بإحراق نفسه، تنتفض الجامعات من أمريكا إلى أوروبا، ينعقد مجلس الأمن. تعترف الدول الأوروبية بفلسطين لأول مرة كدولة في تاريخها، تنال فلسطين على العضوية كدولة في الأمم المتحدة، تضرب إيران تل أبيب، يهدد الحزب الديموقراطي بخسارة الانتخابات الأمريكية من أجلها!
كيف لهذه البقعة الصغير المحاصرة أن تتحدى نظام الإمبريالية المستبدة بأسره؟ حتما على قوى العالم إخضاعها! ليس فقط لمطامع إسرائيل في أرضها، ولمشروع توسعها، بل لتجعلها إمبراطوريات العالم عبرة لنا، العرب، المسلمين دول العالم الثالث أو دول “الجنوب” المستضعفين المحتلين.
قاوموا، وستصبحون مثل غزة! وهذا بالفعل ما يحدث الآن في لبنان، فأصبحت غزة هي العبرة، وهي المثل. “إنه يجعل غزة من لبنان”، بات يقول الكيان المحتل، ويقول القائلون.
لكن حكاية غزة لم تنته بعد. فكما يقولون، طالما أنت تقاوم، فلم تنهزم. وغزة تقاوم. وجباليا تقاوم.
لا أدري ما سيحدث في جباليا، إن ستنجو، أو ستسقط. ولكن، حتى وإن لا قدر الله سقطت، فلنعمل بوصية ابن غزة وشهيدها، رفعت العرير: ” إذا كان لا بد أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت، لتروي حكايتي”. فأيا كان مصير جباليا، فلنجعلها قلبنا وعاصمتنا، إن عشنا نحن، لنحكي حكايتها، وكيف أن بإمكان رقعة صغيرة محاصرة، أن تهز نظام العالم بأسره، فما بالنا إن كان لنا بلاد وثروات وجيوش. فالقصة لم تنته بعد، مازالت قصة جباليا عاصمتنا تحيى في قلوبنا.