مدونات
الكاتبة: سلسبيل صوالحة
لعل من أكبر التحديات التي تواجه الدول العربية في الوقت الحالي هو غياب ثقافة القراءة والإنتاج الأدبي التي بوجودها شهدنا أفضل فترات الحضارة العربية والإسلامية سواء كان ذلك في الأندلس أو في بغداد حاضرة الرشيد أو إسطنبول وغيرها من مدن وبلدان رافق تقدمها وازدهارها تطورا ملموسا في الجانب الثقافي، أما ما نراه اليوم من ضعف في النتاج الأدبي وعمليات الترجمة هو انعكاس لتأخر العرب في كافة الميادين، وإن رأيت أقلية قارئة فإن معظمها يرى الكتاب كهدف لا وسيلة، أي يسعى من خلال القراءة جمع كلمات ومصطلحات يتباهى ولا يحاول تحويل القراءة من كلمات إلى أفعال وتحويل النصوص إلى نتائج ملموسة تسهم في رفعة الأمة.
إن وجود هذه الشخصيات في وطننا العربي هو نقمة أكثر من كونها نعمة فهذا الذي يفتخر بقراءته لماركس ونيتشه وشوبنهاور وتولستوي هو نفسه الذي ينظر بازدراء إلى النتاج العربي فتراه يتجنب ذكر اسم لمؤلف عاش في بلاد العرب ويسعى جاهد لإقحام أسماء كتاب أجانب وغربيين لأنه بنظره كلما ابتعد عن العربية ازداد ذكاء وثقافة، فتشعر أنه مغيّب عن عصور كاملة صنعت فيها حضارتنا العلوم والمعارف وأخرجت فيها عقولا فذّة غيرت مجرى التاريخ بدءا بالفارابي وابن رشد وابن سينا ووصولا لابن خلدون وإدوارد سعيد وغيرهم من علماء وكتاب يطول الحديث عنهم وعن إنجازاتهم، فالثقافة والقراءة هو جزء ينتمي لنا وليس بمصطلح بعيد عن هويتنا وحضارتنا وأي محاولة للتقليل من هذه الإنجازات هو امتهان لنا ولكرامتنا، فما أنتجناه هو محل فخر واعتزاز لكل من ينتمي لهذه الأمة.
وأما من جانب آخر فهذا “المثقف الحديث” يحاول إشعارك في كل كلمة يقولها أنك غير قادر على مجاراته، فيبدأ النطق بعبارات لا يدري كنهها ولكنه يستعملها لإكمال مهمته في جعلك تشعر بأنك مهترئ عديم الثقافة ولن تصل يوما إلى مستواه، وصدقني مهما كانت ثقتك عالية فإن كثرة التعامل مع هذه الشخوص ينفّر الإنسان من الكتاب!
فالقراءة لم ولن يكون هدفها تحرير الكتب من رفوفها بل هي لتحرير الإنسان من جهله وقيوده، وتلك الشخصيات عليها أن تعيد فكرتها حول ماهيّة القراءة فبالنسبة لي لا فرق بينهم وبين من يستهلك الثقافة كمحتوى رقمي سريع، فكلاهما لا يعي من معنى الثقافة شيئا فهم أشبه بمن يؤسس بيتا من خيوط العنكبوت وما أوهن هكذا بناء فإنه ينهار ويسقط أمام أي اختبار حقيقي، وإذا ما رأى بأن المنفعة المرتجاة من فعله بدأت بالأفول فإنه ينصرف عما يقوم به، وهذا معاكس تماما لفكر القارئ الحقيقي الذي يظل في شعور دائم بجهله مهما نهم من العلوم والمعارف، وتراه في سعي دائم للتطور والتعلم فهو لديه حلم ويمتلك الطموح والرؤية ليكون مؤثرا بما يقرأه لا متأثرا فحسب، فيسعى لأن ينتج فكرا ننهض به بل ويحاول تأسيس نظام يخرج مؤثرين في الوطن العربي لا ينحصر دورهم في جانب الأدب فحسب بل تراهم في كل الميادين بدءا من الاقتصاد والسياسة وصولا للتعليم والتربية، وهذه الحالة ليست رفاهية ندعو إليها بل هي حاجة ماسة فأي مشروع نحاول بناءه وإنشاءه لن يستمر بلا أساس معرفي وعلمي يدعمه، وهذا الأمر – وإن كان على نموذج أبسط – فقد كان أساسا لعمليات تحرر وثورات ظهرت في أوطاننا كالثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) التي قامت بوجود جرائد ومجلات وكتاب وشعراء دعموها وحتى كثير منهم أضحوا شهداء مثل الشاعر عبد الرحيم محمود (1913- 1948).
وفي هذه الظروف الصعبة تبرز الحاجة للعلماء والمفكرين القراء والمحللين الذين يؤمنون بالفكرة ويناضلون من أجل تحقيقها، فهدفهم الأول هو رؤية الأمة كما يجب أن تكون فيسعون لتحقيق أمجاد وإنجازات تليق بها، وهؤلاء ليسوا بأشخاص خارقين للعادة بل هم أناس مثلنا لديهم حياتهم وصعوباتهم ولكنهم تنبهوا إلى دورهم وعرفوا أهمية الكتاب، فعكفوا يطلبون العلم لا من أجل الصيت والذكر بل لينقذوا إرث الأمة وتاريخها فهم متأكدون بأن سعيهم هذا سيؤتي أكله في يوم من الايام، ويؤمنون بأن دولنا إذا فتحت بالسيوف فإنها تبقى بالأقلام، وكما يقول الشاعر الفلسطيني تميم برغوثي: “التاريخ يكتب مرتين الأولى بالدم والثانية بالحبر والثانية للمفارقة أبقى من الأولى”.