سياسة

النفي من القطيع، أو النفي من الحياة!

أكتوبر 8, 2024

النفي من القطيع، أو النفي من الحياة!


عندما تتخاذل عن القيام بدورك، خاصّةً في لحظات الاختبار، أمامك بعضُ خيار: إما تتوارى خجلاً لاعترافك لنفسك بتقصيرك وتخاذلك، أو تدّعي سبلاً -غير التي تركتها- لإحقاق الحقّ تحايلاً أو تلفيقًا فقط لتتخلّص من خجلك، أو لتنفي عنك في أعين الآخرين عارك، لكنّ نفسك تقرّ بالحقيقةِ وتتمنّى لمن يقوم بدوره الوصول وتناصره ولو صامتًا بقلبك، أو تتواقحُ وتُهاجم الذين مازالوا يفعلون، وتتهمهم بالجنون أو الانتحار، تُنكر الحقّ لتُنكر تخاذلك، وتهدم القائم به لتهدم واجبك من أساسه. ولا شيء أحقر من ذلك.


عادت ليلى سويف -العالمة الجليلة، صاحبة السبعين عامًا- للإضراب عن الطعام، بعد اختطاف ابنها “علاء عبد الفتاح” فور انتهاء كامل محكوميّته الجائرة ورفض الإفراج عنه، وعادت مع تلك الرحلة القاسية الثقيلة والمحفوفة بالمخاطر، تتصاعد أصوات ساذجة وإن صدقت، تسأل عن الجدوى وتحذّر من التّبعات، كأنّها اختارت أن تفعل، أو علاء هو الذي رفض الخروج، وتتجاهل الجريمة الحقيقيّة والمجرم الحقيقي.


علاء الذي يُعاقب لا على جريمة أو مخالفة، إنّما على رمزيّةٍ لجيل، وتمسّكٍ بحق، وانتصارٍ لمظلوم وبقاءٍ على سيرةٍ أرادها السجّان سحقًا وقررها هو صمودًا “فلنكن عبرة إذًا، ولكن بإرادتنا”، ولولا أنّه يرفضُ الانصياع لما اعتُقل أصلاً، ولولا أنّه يرفض المساومة لما بقيَ هذا العمر بداخل المعتقل، إذ المراد تطبّع وتتطبّع، أو تُنفي خارج القطيع منبوذا أو خارج الحياة الطبيعيّة معتقلاً أو خارج كلّ حياةٍ مقتولاً.


ولا سبيل لتجنّب المصائر الأربعة إلا أن ترفضهم وتقاومهم (هم ومن يفرضهم) حفاظًا على نفسك، وانتزاعًا لمساحتك، ودفعًا للسقفِ الذي يُرادُ به أن يسحقك تمامًا. وقد أثبتت التجربة أنّ كلُّ طريقٍ آخر ولو فِرارًا أو تجنّبًا أو إنكارًا، كان مصيره السحقُ على يدِ الخصوم أو الاندثار كغبارٍ على جانبي طريقِ الحياة، وهذا بالضبط ما يرفضه علاء، ويجتهد بعمره وحياته وسني عمره أن يدفعه عن نفسه وجيله.


على جانبٍ آخر، ليس بعيدًا عن حكاية علاء، يأمر النائب العام-في منتصف الليل- بفتح التحقيق معي بشأن ديواني “كيرلي”، وهذه المرّة بتهم ازدراء الأديان والاعتداء على الذات الإلهيّة، وهي الخطوة الأولى عمليًّا بعد 13 شهر من التهديدات والملاحقات والجنون والتي وجب معها التأكيد على بعض نقاط:-


التلويح بإعادة الاعتقال – تخويفًا، أو قرارًا – شيء مبتذل وحقير، لا معنى له سوى انحشارنا وسط إرهاب رسمي ومترسمن، تديره وتقوده السلطة، وتحرّض عليه شرائح من المجتمع عبر أدواتها الإعلاميّة والمؤسّساتيّة، بذات الأدوات المستهلكة الدنيئة التي تستخدمها كلّ سلطةٍ مشابهة، أو حتى بما ظننّا أنه تعفّن من أدواتٍ وانقضى عهده، لكنّهم قرروا استدعاءه من أدراج سابقيهم (للأجهزة دولابُ أدوات الجرائم، لا يُتخلّص من شيءٍ فيه مهما فات زمنه).


وكما لم تؤتِهم السنوات العشر وما قبلها وما جرى فيها ما أرادوه، لن يحصلوا على شيء من القادم في المعتقل أو خارجه؛ هذا التزامي تجاه نفسي وفي مواجهتهم بوضوح وحسم، أيًّا كانت التبعات، التي نجتهد لتجنّبها لكن لا تبني على أساسها.


لا أحب أن يحدث هذا، وربّما لستُ مستعدًّا له-نفسًا وبدنًا- لكن لن أسمح بأن يغيّر مسارًا أو يبدّل موضعًا، ناهيك عن النظر في الانحيازات المبادئيّة لأجله؛ إذا أنّ الراسخ من هذا الطريق، وهو قليل، أوّله كما علّمتنا التجربة والسابقون “لا نغيّر موقفًا تحت التهديد، أو في المعتقل، ولو كان خطئًا” فما بالك والموقف هنا مقطوعٌ بصحّته ” مع المقاومة، ضد الصهيونيّة والتحالف معها خاصّةً وقت المواجهة” وقبل ذلك – حقًّا أصيلاً، أو واجبًا حتميًّا” رفض الإخراس القسري”؟
ولا أشرف من أن تأتي هذه الضربة (واقعًا أو تهديدًا) كعقابٍ على الموقف من تواطئهم وخيانتهم للقضيّة وللأهل في فلسطـين ولبنان، وجرائمهم بحقّ مصر وأهلها، واصطفافهم في كلّ اختبار للعدو ولكلّ ما يُهدر أمننا القومي وحقوقنا التاريخيّة؛ إذ لم يكن صدامٌ إلا في حقٍّ للبلاد أو الأهل، كما في حقوقي التي استلبوها منذ سنين وما زالوا يصرّون على استلابها دون رادعٍ.


لن يقاربُ هذا ما يلحق بنعلِ واحدٍ من القائمين على ثغورنا هناك، ولا أجرؤ على تواقحٍ كهذا، لكنّه حدود ما بيدنا، ويعلم الله أننا تمنّينا المزيد بلا حدّ. وأيًّا كان القادمُ؛ فلا رجوع عمّا اعتقدنا -بعد اجتهاد- في كونه حقّ، ولو جانبنا الصوابُ في أداةٍ أو وسيلةٍ أو تعبير.


شارك

مقالات ذات صلة