سياسة
تخيل معي ضفدعًا يسبح بهدوء في بركة فاترة، لا مجال للأخطار، هي مجرد بركة لطيفة. درجة حرارة الماء تزيد درجة واحدة، والضفدع يستمر في السباحة الهانئة، درجة الحرارة تزيد مرة أخرى، لا مشكلة. ثم تزداد الحرارة مجددًا، الماء لم يعد فاترًا، صار ساخنًا تدريجيًا، الضفدع يتآكل وعيه، ويتكيف مع ازدياد الحرارة ويستكمل السباحة بلا مبالاة. دون أن يشعر، ترتفع الحرارة أكثر، يتباطأ نبض صاحبنا وتثقل حركته، الماء يصل لدرجة الغليان، لم يعد عقل الضفدع بكامل وعيه، لكنه أخيرًا يفهم الخطر المحدق الآن، يحاول القفز بكل قوته، لكن الشلل كان قد سبقه لقدميه، فات الأوان، لن يستطيع الضفدع القفز بعيدًا عن الماء المغلي، وصار أسيرًا للبِركة، التي ستقتله ببطء.
مثال “الضفدع المغلي”، عادة ما يُستخدم للتدليل على خطر غياب ما يُعرف بالإنذار المبكر، والتأثير القاتل لسوء قراءة متغيرات المشهد. لو أدرك الضفدع تغير درجة حرارة الماء التدريجي لقفز وأنقذ نفسه، لكنه تكيف ببطء مع تدهور محيطه، ولم ينتبه أن بطئه في الفهم قاتله.
المعركة بين الحروب
إسرائيل عمدت في وقت مبكر إلى اللعب بهذه النظرية ووضعت الأطراف الفاعلين في بركة الماء وزادت من سخونتها أولًا بأول وهم لا يشعرون، منذ 2015 كثفت إسرائيل عملياتها العسكرية ضد إيران، البداية ب “المستشارين العسكريين الإيرانيين”، الجنرال علي دادي المستشار الرفيع في الحرس الثوري كان من أوائل الضحايا بهجوم في القنيطرة السورية، تلاه آخرون تنوعت رتبهم العسكرية، تلاه الهجوم الإسرائيلي السيبراني “الذي لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنه” على مفاعلات نووية إيرانية بينها مفاعل نطنز في 2020 و2021 والذي تزامن مع اغتيال إسرائيل لمحسن فخري زاده وهو من أهم العلماء الإيرانيين المسؤولين عن تطوير البرنامج النووي الإيراني.
هذه الهجمات كانت كلًا منها على حدة لا تُعد إعلانًا للحرب، لكنها في مجملها حالة حرب مستمرة، أو ما تسميه إسرائيل “معركة بين الحروب” وهي استراتيجية إسرائيلية متبعة في تدمير قدرات الخصم تدريجيًا وتقليم أظافره بشكل مستمر، دون أن يشعر أنه في حالة حرب، لمنع اندلاع “حرب شاملة” قد تكون مكلفة لإسرائيل.
إيران بدورها كانت دائمًا ملتزمة بضبط النفس خوفًا وطمعًا، محاولة عدم إتاحة الفرصة للإسرائيليين للاقتراب من حلمهم القومي “المشروع النووي”، وإسرائيل على الجانب الآخر تراهن دومًا أن الإيرانيين لن يقدموا على خطوة متهورة. ويستمرون في زيادة سخونة الماء على الإيرانيين، بلا توقف، وبلا ملل.
بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، إسرائيل تحولت إلى “كلب مسعور جريح” ينهش كل من قد يشكل خطرًا عليه، وبسبب رغبة كل الأطراف في عدم استفزاز الكلب المسعور، تمادى الإسرائيليون أكثر، هجمات متتالية في سوريا على مخازن أو مراكز بحثية تابعة للإيرانيين أو تابعة لحزب الله، اغتيال مستشارين عسكريين إيرانيين في أنحاء متفرقة من سوريا، وتوج الإسرائيليون عملهم بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق إبريل ٢٠٢٣، وقتل ٧ عسكريين إيرانيين بينهم القائد البارز في الحرس الثوري العميد محمد رضا زاهدي. إيران ردت في ذات الشهر ولأول مرة بشكل لا يشكل خطرًا لكنه يحفظ ماء الوجه، ولا يترك مساحة للإسرائيليين لما يسميه جميع الخائفين “الذهاب للحرب الشاملة”، لكن تل أبيب فهمت الرسالة وقررت أنه طالما يقلق الإيرانيون من اتساع الحرب، فيجدر بإسرائيل الذهاب بعيدًا، وهو ما فعلته عندما اغتالت هنية في طهران في ضربة للسيادة الإيرانية، ولإحباط الرد سربت واشنطن إلى طهران أنه في حال ردت إيران ستفشل مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وأن وقف إطلاق النار بات قريبًا، وهو ما كان وهمًا (وفقًا لحديث الرئيس الإيراني منذ أيام) .
إشعال النار في البِركة
حزب الله هو الآخر، مرارًا وتكرارًا كرر رسائل من نوعية “لن نذهب لحرب شاملة – جبهة إسناد وليست جبهة حرب” هذه الرسائل ترجمها الإسرائيليون سريعًا إلى “ضعف” وذهبوا بعيدًا عن “قواعد الاشتباك المتعارف عليها”، سواء بقصف العمق اللبناني مرارًا واغتيال العاروري في قلب الضاحية الجنوبية مبكرًا ثم اغتيال قادة رفيعي المستوى، بداية من وسام الطويل مسؤول التصنيع العسكري بحزب الله في يناير الماضي ثم فؤاد شكر الرجل الثاني في الحزب، وبينهما قائمة طويلة من قيادات الصف الثاني، واكتفى حزب الله حينها بالحفاظ على النمط المعمول به وعدم توسيع دائرة القصف، قبل أن تقرر إسرائيل إشعال النار في البركة بهجمات البيجرز واللاسلكي ثم الهجمات العنيفة جنوب لبنان التي أسفرت عن استشهاد مئات المدنيين في ساعات، مرورًا باغتيال ٩٠٪ من الهيكل القيادي لحزب الله وقادة فرقه العسكرية، وفي ظل تصاعد الأحداث وتطور العدوان الإسرائيلي، سرب الأمريكيون رسائل بمحاولات لهدنة في لبنان وموافقة الإسرائيليين عليها، وفي ذات اليوم اغتال الإسرائيليون أمين عام حزب الله حسن نصر الله!
إما أن تقفز الآن أو تنتهي للأبد
تفضيل إيران وحزب الله مبدأ Let sleeping dogs lie، عوضًا عن خيار الرد وفق قواعد الاشتباك، جعل الإسرائيليين لا يفكرون مرتين في توسيع نطاق الحرب والاستهدافات، ويبدو أن (الكلب المسعور) أخذ العبرة من منطق الجنرال الصيني الشهير (صن تزو) صاحب كتاب فن الحرب: “لا تقاتل جيشاً بأكمله إذا كان بإمكانك قتاله قطعة قطعة”، فعمد الإسرائيلي إلى تقسيم أهداف الحرب بشكل متدحرج دون إشعار باقي الأطراف أن الدور عليهم، وصنع مشهد وهمي دائم عن مفاوضات مستمرة وهدنة مرتقبة، بهدف ثني باقي القوى عن الانضمام إلى الحرب القائمة بالفعل، والتي تنهش/ ستنهش كل الأطراف التي استجابت لنداء محمد الضيف في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
وبعد أن كان الإسرائيليون يتخوفون دومًا من هجوم منسق مباشر عليهم من غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، حال هجومهم علي إيران، كما قال وزير دفاعهم السابق ” هناك بنادق محشوة موجهة ضدنا خصوصًا في الشمال”، تغيرت الموازين، بعد أن أخذت إسرائيل أشواطًا واسعة في تحطيم هذه البنادق وإضعاف قدراتها تدريجيًا. بندقية غزة، ثم بندقية حزب الله، وأنظارها تتجه لليمن والعراق، بينما يقف الضفدع الإيراني وقد شلت المياه المغلية قدميه، الرئيس الإيراني قال بعد الهجوم الباليستي الإيراني الأخير إن بلاده لن تستكمل دورها في “ضبط النفس من طرف واحد”، ربما يفهم الآن أننا في حرب شاملة، الكلب المسعور قرر أن ينهش الجميع، إما أن يقفز الضفدع الآن من الماء المغلي، أو ينتهي للأبد.