مدونات
في لحظةٍ أعادتني في الذاكرةِ إلى الوراء، نعم ، قبل عام ٍ من اليوم وأنا أجلسُ أمامَ شُرفة غرفتي الصغيرة وبجانبي كوب القهوة وكتبي المتناثرة، وأرى إشراقة الشمس لصبح ٍمليءٍ بالأملِ والحياة، لم أدرك وقتها أنها آخر لحظاتِ السعادة، وكأن ّالشمس كانت تودعني بطريقتها وألوانها المشرقة، لم ندرك جميعاً أن ساعة الصفر قد حانت، وكأن ّالزمن توقف.
ففي اللحظة التي من المفترض أن تنهضَ الأمهاتُ راكضاتٍ فيها لمهامهنّ اليومية، أو يستعدَّ فيها ذاك المدير لإلقاء كلمته الافتتاحية في طابور المدرسة، ويحمل الباعة المتجولون فوق أكتافهم بضائعهم، وتنتهض فيه حركة المصانع والإدارات والتجارات والشواطئ، لوهلة توقف كل شيء مكانه، انتهى كل شيء، الآن تحولت المدينة لساحةِ حرب ٍوشِكٍّ مفتوح من عدّاد الجرحى والقتلى بلا تقيّدٍ زمني، فما عادت الأمهات يباشرن عملهن ّفي المنازل ولا باتت هناك مدارس، ولا مستشفيات، وما عاد المدير بعد أن ألقى آخر كلماته الختامية في آخر طابور ٍقبل عام.
تحولت البيوت إلى خيامٍ، والمستشفيات والمدارس إلى ملاجئ، وباتت الأمهات ينتزعن حقوقهنّ في الحياة انتزاعا ً لا من أزواجهنّ ، بل من كل شيء يحيط بهن، من ذاك العدو الذي انتهك حرمتهنّ فدخل بيوتهنّ وقتل أولادهنّ أمام أعينهنّ واعتقل من نسائنا ما شاء، وعاشت المرأة في هذه الحرب أبشعَ ما يمكن أن تراه النساء في العالمِ من التنكيل، والإهانة، والاعتقال، والإتلاف الجسدي والنفسي، مرَّ عام عليها، تقول النساء ُفيه: كم أتمنى أن يمحو َالله ُهذا العام َبأكملهِ من حياتنِا! فصرخة ُطفلٍ كانت بمثابةِ سكين ٍفي خاصرةِ كلِّ أم.
عن أي طفولة أتكلم؟! عن أطفال غزة الذين كبروا ألف عام ٍ في عامٍ واحدٍ! كنت أسير أحد الأيام على الطريق فسمعت ُصراخ أحدهم قائلا ً: “شراب بشيكل” التفتُ علّي أرى مصدرَ الصوت فلم أجد أحداً في المكان! وحين تكرر الصوت رأيت تحت شجرةٍ بعيدة ٍطفلا صغيرا لم يتجاوز الخمسَ أعوام يبيع ُشراباً أعدّته له أمّه، ليكون َسبيلاً لتعيش عائلته، سألته: هل أنت قادرٌ على فعل هذا كل يوم؟ قال ببراءة طفلٍ وحروفٍ متكسرةٍ وبرجولةٍ فاقت كل مقاييس الرجولةِ في هذا العالم المتخاذل وبكل قوةٍ وجرأة نفتقدها في زماننا هذا: “نعم، وأنا جداً مبسوط يا خالة” كم كانت ابتسامته جميلة! لكن إرادته للحياة أكبر وأجمل! لم أستطع أن أسأله عن والدِه خوفا ًمن أن لا أجد جواباً، فكم رجلٍ ذُرفت دموعه في هذه الإبادة! فالصبر والقوة والشجاعة من سماتِهم لكنّ الحرب َطالت فطالَ بلاؤُها والرجل شُقّت عليه الحياة فلا هو قادر على هذا العبء ولا هو ذاك القوي الذي باتَ قادراً على أن يصمد أمام قهر الظروف.
عن أي ظروف ٍ نتحدث؟ تلك الظروف التي تجاوزت حدودها خلال عام، تعرض الجميع بلا استثناء لحالة من الهستيريا في تحولٍ عمري وجسدي وعقلي كامل، فما عاد هناك أطفالٌ صغار يلهون بالكرةِ، وما عادتِ الدُّمى أكبر أحلام طفلةٍ في حضنِ والدها، ولم يعش المراهقون طيشهم بل بات الشباب والفتيات وكل المجتمع يحمل فوق عاتقهِ عبء الحياة التي زادت صعوبتُها أضعافاً فوق ما كانت عليه، فكم من أسرة ٍفقدت أبناءها، أو مُسحت جميعها من السجلات، لم يكن الموت وحده وسيلة العدّو ِفي الخلاص ِمن شعب ٍبأكمله ِبل شدَّدَ الخناق َوحاصرَ المدينة برا ًوجوا ًوبحرا، ثم ّقسّمها أشلاء، فأخذ يعبث بها شمالاً بالتجويع، وجنوباً بالنزوح والتشريد فبعد آلاف المرات من النزوح من خيمة ٍ إلى خيمة، باتَ الكثير تحت خيامهم، كانوا يظنّون أنهم آمنون، فلا مكان آمنٌ هنا ولا ملجأ محصَّن، فالمدينة بأكملها تحت مرمى النيران من كل جانب.
منذ عام لم يتوقف العدو لدقيقة واحدة في التنكيل، والعدوان الجنوني بل مارس وما يزال أبشعَ وسائلَ التعذيب، والقتل، والحرمان. لم يمر على الشعبِ الفلسطيني عام ٌكهذا العام، ثلاثمائة وخمسة ٌوستون يوماً في كل يوم فيه كانت تسجِّل غزة أعلى أرقامٍ في المجازر بأبشعِ وسائلها وأدواتها، كانت الفواجعُ تتوالى، يُردّدُ البعض قائلاً: نحن نحمد الله أننا ما زلنا نعقِل وسط هذا الجنون. نعم، إنَّه عام مجنون مليءٌ بالخراب، قَتل الأرواح قبل الأجساد، بتنا نترقب اللحظة ننتظر فيها من سيودّعنا أو نودّعه، كلنا في عداد ِالقتلى، فنحنُ نعيشُ في ساحةِ الحربِ وحدنا لا نملك في هذه اللحظات سوى الدعاء أن ينجِّيَنا الله من هذا الجنون كلِّه وأن ينتهي هذا العذاب ُبسلام.