مدونات

بين القعود والنصرة، طوفان مشاعر متقلبة

سبتمبر 29, 2024

بين القعود والنصرة، طوفان مشاعر متقلبة

الكاتبة: فاطمة الزهراء سحنوني


منذ تفاقم الأحداث بعد 7 أكتوبر 2023م، أيام كثيرة حملت لي بداخلها مسرَّات تكفيني عادة لأنافس الفراشات في الزهو. لكنَّ بركة من الحزن اللازب على ما آلت إليه أوضاع إخواننا رست بداخلي، وتمكَّنت منِّي بفعل استفحال الأذى المركَّب، وأبت إلا أن يكون حضورها قويا، واضحا، نيابة عن كل المرات التي تحايلتُ فيها عليها. معجونة بعجز مثقَّل، مكثَّف، مركَّز، ثابت الحضور، يملك استمرارية مذهلة، وقدرة فائقة على خنق الفرح بأشكاله، وطمس معالم البسمة.


 أحاول عبثا استخراج النَّقيض المغيَّب، باصطناع سرور بسيط، وعيش الحياة بالحدِّ الأدنى من الانشراح، ومجددا عبثية محاولاتي. تغلب أحيانا فطرة التعود فينا، نزعتنا البشرية إلى الاستمرار رغم كل شيء، فنتكلَّف السَّير العادي القديم الذي كان نهج حياة يوما ما، ثم ما تلبث تلك اللحظة الفارقة التي تضرب الحقيقة على وجوهنا أن تعود موضحة أنَّ هذه الادِّعاءات كاذبة، وما نحاول فعله عبث محض.


نحمل جبالا راسية، وبحارا مكدرة، وسماء رصاصية، وقلوبا فادحة الهشاشة، وهواء حامضا، وعيونا محمرَّة ضبابية الرؤية، ونواصل الخطو العشوائيَّ نحو وجهات تبدو في ظاهر الأمر مسكِّنات للعبثية التي نستشعرها، قبل أن تتبيَّن هي الأخرى ماهيتُها، وندرك أنَّها عبث آخر رخيص، رديء. بين اعتياد المشهد والالتفات للجديد منه، بين مواصلة التقليب والتوقف على عتبات شرائط الأخبار.


بين النسيان والتذكر، والتوثيق والتهميش، والصراخ والصمت، مصابيح انطفأت، وزهور ذبلت، وتربة جفَّت إلا من الدِّماء، وأكوان بشرية متكاملة محيت بما حوت. ونحن نتفرَّج، وهذا الحزن باق، ثابت فينا، أراه يرمقنا بقسوة، يسائل البسمة على شفاهنا، والشبع في بطوننا، والدفء من حولنا، والأمن الفضفاض في حياتنا، يصبغ عليهم صبغة التأنيب والدونية. لا اعتراض عليه، إذ كيف بإمكان المرء أن يفرح في عالم يصادق على قطف رؤوس الصغار بعد أن أطفأ أنوار الحياة عنهم بالصمت والتجاهل، ويحول دون وصولهم مكتملين بذبولهم وأفولهم إلى أحضان أهلهم؟ كيف يتجاوز من قلبُه حي مشاهد الأجساد الخالية من الرؤوس، والرؤوس المفصولة عن أجسادها، والأشلاء المنتشرة، والأعضاء المفتتة، والجثث المتناثرة في كل مكان، والأيادي المرمية تحت الردم وحيدة بلا أحد، حيا كان أو ميتا، يمسح عليها، أو على الأقل يردم معها ليؤنسها ويقاسمها الأذى وينجو بذلك من لعنة الناجي الوحيد.


 أمَّا نداءات الاستغاثة، ونظرات العتاب، ثمَّ العيون المثقلة بالخذلان وخيبة الأمل، كيف نواجهها بعد مرور كلِّ هذا، سواء في الدنيا يوم التحرير، أو يوم تجزى كلُّ نفس بما كسبت؟ حينما تتحول وجهة الأحلام من صناعة وقود للحياة إلى تمنِّي حضور محترم للموت، فتُنسج حوله ولأجله فقط، هنا تنسف القواعد كلها. حين يصبح الجسد المكتمل حلما، والكفن حلما، والقبر حلما، وصلاة الجنازة حلما، والنَّجاة الفردية كابوسا، وتنسحق طبيعة الأنا تحت وطأة الفقد والقهر، هنا تتضاءل الحياة ويتلاشى بريقها، ويخف وزنها حتى تهوي من الأفئدة، وتصبح شيئا عابرا يجب اجتيازه لا أكثر ولا أقل.


 هذا كلُّه، وما عجزت العدسات عن إيصاله ممَّا خفي يزحف تجاه لبنان، ليعيد الكرَّة أمام أنظار عالم كامل من المتفرِّجين، ويضاعف مشاعر الحقد والألم والعجز، ويجدِّد مساءلتنا حول الهاوية التي نسير إليها مغمضين مسلِّمين الأعناق لحفنة من الأشقياء السفاحين. جرف هذا الطوفان مفاهيم كثيرة مشوهة في طريقه، ومنحنا دروسا عظيمة عميقة المعاني، أبرزها: تبيان الحجم الحقيقي للدنيا المتعاظمة في أعيننا، والتي فشل كثيرون في مجابهة سطوتها من خلال أمور بسيطة جدا، كمقاطعة منتجات عائداتها تساهم في قتل إخواننا.


كذلك، العبث المركب لما يسمَّى بالحضارة والمدنية التي عملت الترسانة الإعلامية الغربية على بثها وإقناعنا بها، والكثير الكثير.. والأهم، يقف سؤال ضخم منتصبا في الواجهة مفاده: ما لعمل؟ كيف نسقط جاثوم الحزن المركب المقعد الذي يهوي بنا إلى قاع الوجود ويكبل الحركة والسكون؟ قد لا نستطيع فعل شيء كثير للمشاعر المتقلبة، سوى الصبر ومسايرة النفس ووقايتها قدر الإمكان من داء التعود. لكن، الأكيد الذي بيدنا فعله هو أن نخرج من قوقعة القعود ونمارس فعل الحركة. هذا هو الحل الوحيد الذي يضفي شرعية على الأحاسيس أعلاه، ويعين على تصريفها، وحرق مخلَّفاتها الباعثة على الجمود، كلٌّ بالمتاح لديه. وكلُّ حزن لا يحرك فينا شيئا، ولا يدفعنا لتقديم شيء، هو حزن وهمي لحظي وربما كاذب أيضا.


شارك

مقالات ذات صلة