مدونات

شتاء يلوح في الأفق..

سبتمبر 22, 2024

شتاء يلوح في الأفق..

الكاتبة: تسنيم المسحال


سنُباغتُ المطر قبل أن يُباغتنا. هكذا أخبرتني إحدى النازحات بمواصي خانيونس بخطة أهلها المُحكمة واستعدادهم الجيد لاستقبال المطر، فهُم لن يجلسوا في الخيمة المُمزّق سقفها في انتظار مصيرهم المجهول، ولكنّهم سيجلسون في الخارج ليبتلُّوا دُفعةً واحدة تحت ترانيم المطر.


عندما بدأت قطرات المطر في الانهمار، تذكرتُ حال تلك العائلة الذي يشبه حال آلاف العوائل الغزّية النازحة في جنوب وادي غزة. بدأ الأمرُ حين وجدوا أنفسهم تائهين في الشوارع التي تشبه الصحراء أكثر مما تُشبه شيئاً آخر، فصنعوا من أغطية الشتاء والستائر والمُلاءات أشباه خيام علّها تقِيهم بعضاً من قيظَ الشمس، ومع أنّها لم تقِهم شيئاً، إلاّ أنها كانت ملاذاً يلتجؤون إليه حين يَحِلُّ الليل بظلامه الدامس، فلا أنوارَ هنا في الصحراء سوى أنوار القمر.


لم يُدرك النازحون أنّ الشهور ستُمُرُّ كما تمُرُّ الأيام، وأنّ الشتاء بدأ يكشفُ عن أنيابه مرةً أخرى، إلاّ عندما أنذرهم الراصد الجوّيْ بأنّ أيامً ماطرة تلوحُ في الأُفق. لم يعلم الراصدُ الجويْ أنّ أخباره بلا فائدة تُذكر، فمن لم يستطع بناء خيمةٍ جيدةٍ للصيف، لن يستطيع إعدادَ العُدّة للشتاء كذلك، ومن هنا نستنتج سبب شُحِّ المساعدات وبخاصة تلك التي تتضمّن الخيام والشوادر التي بإمكانها أن تُبدِّل واقعاً مأساوياً لأُناسٍ لا يملكون مصدر عملٍ منذ قًرابة العام. فالذي يُنظِّرُ على غيره من بُرجٍ عاجيْ غيرَ قادرٍ على فهم المعاناة التي يٌعانيها من أصبحت الطُرقاتُ بيوتً لهم.


إنّ هذا العام، مشابهٌ كثيرٍ للعام الذي سبقه، فها هُم الغزِّيون، ينتظرون أول هطولٍ للمطر بفارغ الصبر، لا ليُوقدوا النارَ على قِدر الشعيرية وسطَ اجتماعٍ عائلي جميل، ولكنّهم ينتظرونه ليعرفوا مواطنَ الضعف في بيوتهم القماشية، ومع أنّهم لا يروْن من المساعدات شيئاً سوى ما يُعرضُ على صفحات التواصل الاجتماعي، إلاّ أنّهم يملكون من الإيمان ما يجعلهم مُوقنين بأنّ الله الذي افتدى سيدنا إسماعيل بكبشٍ من السماء، سيُرسلُ إليهم خيمةً جميلة، أو سيُرسلهم بدلاً من ذلك إلى جِواره، حيثُ لا وَصبٌ ولا نَصب، ولا شتاءَ قارصٌ يلوحُ في الأُفق.


حين يذكُرُ أحدهم الشتاء، تعودُ بيَ الذاكرة إلى شتاء عام ٢٠٢٣، حين كنتُ نازحةً برفقة عائلتي في إحدى مدارس الأونروا، أو مراكز الإيواء كما كُنّا ندعوها. لم تكن صفوف المدرسة، تقِينا من برودة الشتاء طيلة الأشهر التي قضيناها فيها، لكنّها كانت على الأقل، تقينا من زخّات المطر وصوته المخيف.


ورغم ما كنّا نُقاسيه، لا أزالُ أذكر كيف كنتُ ألهجُ بالدعاء في كلّ مرةٍ يشتدُّ فيها هطول المطر لأحبابنا وإخوتنا الذين كانوا يقطنون الخيام طيلة أيام الشتاء القاسية.


واليوم وبعد أن أصبحتُ من أهلِ الخيام، ها أنا أشهدُ اليوم أولَ هطولٍ للمطر تحت سقف الخيمة، وجُلُّ ما يمكنني قوله، هو أنّني أشعُر بالخوف، فلا جدران حولي في هذا المكان الصحراوي تُؤويني إن اشتدّ المطر وخرق قماشَ الخيمة.


ومع أنّني أعرف أنّها مُعدّة للحماية من المطر، لكنّه الخوف يتملّكُ الآدميْ من كل ما هو جديد، وكلُّ ما أشتهيه في هذه اللحظة، هو جدرانُ منزلي، ومشروبٌ دافئ أحتسيه بينما أشاهدُ المطر من نافذتي التي تُطلُّ على أجمل بحار العالم.


شارك

مقالات ذات صلة