سياسة
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني لم يتأخر حزب الله في لبنان عن الانخراط في المواجهة المفتوحة مع الاحتلال ضمن سقف “جبهة الإسناد” للمقاومة في غزة٬ وحافظ الحزب على هذا الشكل من المواجهة ضمن ما يعرف بـ”قواعد الاشتباك” وسياسة “الردع المتبادل”٬ رغم خرق الاحتلال لتلك السياسة في محطات عديدة واستهداف قلب الضاحية الجنوبية٬ حيث لم يرد الحزب بضربات متناسبة في قلب تل أبيب كما هدد بذلك في أكثر من مناسبة.
ورغم تحقيق الحزب إنجازات كبيرة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة٬ أبرزها تهجير نحو 60 ألف إسرائيلي من سكان مستوطنات الشمال واستهداف عشرات المواقع العسكرية الإسرائيلية وضرب منظومات التجسس والاستخبارات الإسرائيلية المتقدمة لخلق حالة من العمى لدى الاحتلال وبالتالي استنزافه على مدار عام كامل من “الطوفان” في سبيل تشتيته بين جبهتين: غزة والشمال٬ إلا أن حزب الله قد يكون أمام أكبر استنزاف عكسي في تاريخه.
حيث ارتقى من أعضاء الحزب مئات المقاتلين وجرح آلاف آخرين في مواجهة الاحتلال٬ فيما يتفاخر الاحتلال في “تحييد” نحو 4000 عضو من الحزب في ضربتي “البيجر” و”اللاسلكي” يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين٬ فيما نجح الاحتلال في اغتيال أبرز وأهم القيادات الميدانية والعسكرية على مدار عام من المواجهة٬ مثل القادة التاريخيين فؤاد شكر ووسام الطويل وطالب عبدالله ومحمد نعمة ناصر والآن آخرهم إبراهيم عقيل٬ ليمثل ذلك أصعب خسارة يتلقاها الحزب في صفوفه بمواجهة مع الاحتلال٬ لم يتعرض لها حتى في حرب 2006 الطاحنة.
لا شك أن نتنياهو المأزوم في غزة٬ حيث لم يستطع حتى الآن تدمير حماس أو إخماد نيران المقاومة أو استعادة عشرات الأسرى الإسرائيليين الذين يقبعون في ظلمة أنفاق المقاومة٬ يسعى بكل ما يملك لتحويل الأنظار نحو الجبهة الشمالية وإشغال الرأي العام الإسرائيلي بها٬ الذي يمارس عليه ضغطاً كبيراً ويخرج ضده كل يوم للمطالبة بعقد صفقة فورية مع حماس لاستعادة الأسرى ووقف الحرب٬ وهذا آخر شيء يريده نتنياهو٬ حيث سيتفكك ائتلافه على الفور وربما سيكون مصيره السجن.
لذا يسعى نتنياهو وبدعم أمريكي كامل (على عكس ما هو معلن) للهروب للأمام واستفزاز حزب الله بضربات قاسية تدفعه لرد كبير٬ يستطيع نتنياهو من خلاله تبرير أي جرائم سيرتكبها في لبنان على غرار غزة أمام العالم٬ وذلك على الرغم من الاحتلال لا يحتاج لمبررات كثيرة لقتلنا جميعاً وحتى أمام عدسات الكاميرات.
الخطير في الأمر أن جيش الاحتلال يعمل على استنزاف قوة وقدرات حزب الله خلال عملية استفزازه لتصعيد أكبر٬ فضرب آلاف الأعضاء والمقاتلين خلال أيام معدودة وإفقادهم القدرة على حمل السلاح وقتال العدو٬ مع غياب قيادات ميدانية وعسكرية كبيرة كانت تقود المعركة بمختلف أشكالها ضد الاحتلال لسنوات طويلة٬ يشكل تحدياً كبيراً أمام حزب الله للرد على الاحتلال بشكل متناسب٬ أو حتى صد عدوان واسع قد يمضي به نتنياهو في أي لحظة بدعم وغطاء أمريكي كامل.
والخطير أيضاً هو رهان الاحتلال على “تآكل” كل ما بناه الحزب وراكمه منذ تحرير جنوب لبنان عام 2000 وحرب 2006 مثل فقدان الثقة بالحزب على الأقل بين قواعده الشعبية٬ وكذلك اختراق مؤسساته وأجهزته والوصول بسهولة لقياداته وبث الشك والفوضى داخل صفوفه المدنية والعسكرية٬ وفي مقدراته وسلاسل توريده٬ و”تحطيم” صورته كقوة عسكرية كانت دوماً قادرة على إرهاب “إسرائيل” وجعلها تحسب لتحركات الحزب ألف حساب.
اجتهد الحزب منذ بداية هذه المعركة في إسناد غزة وإشغال “إسرائيل” وحاول بكل ما يستطيع تجنيب لبنان حرب واسعة أرادها الإسرائيليون بقوة ولا يريدها اللبنانيون بكافة أطيافهم٬ حيث لا تحتمل البلاد المرهقة اقتصادياً وأمنياً أي شكل من أشكال الحروب التي قد تعرض الحزب أيضاً لانتقادات واسعة وفقدان الإسناد الشعبي والحزبي اللبناني خصيصاً من القوى المعاكسة له.
واجتهد الحزب بكل ما يستطيع للصمود أمام ضربات الاحتلال القوية والمتتالية ضمن سياسة “احتواء التصعيد” والمبادرة في توجيه الضربة الكبرى٬ وتفويت الفرصة على نتنياهو الذي يشتهي الحرب صباح مساء ويسعى لتحويل التركيز من الجنوب الذي فشل فيه٬ إلى الشمال الذي يحقق فيه بعض “الإنجازات التكتيكية” بتوجيه ضربات موجعة وغير مسبوقة للحزب.
لكن في المقابل فإن الاستمرار بسياسة احتواء الضربات الإسرائيلية وعدم الرد بشكل متناسب عليها، أدى بشكل لا لبس فيه إلى تآكل “الردع” وتجرؤ “إسرائيل” على توجيه اللكمات المتتالية والضربات الأكثر إيلاماً مما تخيله حزب الله أو حليفته إيران -التي لا تزال تحتفظ بردها على عدوان الاحتلال المتكرر.
بالتالي فإن الحزب اليوم مطالب باستعادة صورة القوة والردع التي يراهن الاحتلال على تآكلها٬ والمباشرة بتدعيم جبهته الداخلية واستعادته ثقة جمهوره الذي يشن الاحتلال عليه حرباً نفسية غير مسبوقة٬ واستجماع كامل قوته لتوجيه ضربة تترك علامة أبدية على وجه نتنياهو -وإن كان حزب الله فقد عنصر المفاجأة منذ وقت طويل- وإلا فإن الاستمرار في سياسة الاحتواء و”ابتلاع الضربات” خشية من اندلاع حرب شاملة٬ ستساعد نتنياهو في نهاية المطاف بتحقيق مراده في “إيصال الحزب لنقطة الانهيار والانفصال عن المقاومة في غزة٬” والاقتناع بأن “الثمن الذي يدفعه حزب الله مقابل مساهمته في إسناد حماس في غزة باهظ للغاية”.