مدونات
الكاتب: عصام يزبك
صحفي ومعلق صوتي
إن حالتنا العقلية، سواء كانت مرضاً أو مجرد قلق عابر، هي نتيجة لحالتنا الاجتماعية، وثمة فرق كبير بين الشعور بالقلق العابر وبين الإصابة بمرض القلق، وهو أشبه بالفرق بين الشعور بالجوع وبين العيش في مجاعة، وهكذا، فإن الأشياء التي تجعلني أشعر بقليل من التوتر وأنا بصحة جيدة، هي ذاتها التي تجعلني أشعر بالكثير منه وأنا مريض، وما أكتشف أنه يؤلمني في مرضي، يمكنني تجنبه عندما أشعر بالتحسن، الألم أفضل معلّم، وببساطة إن أسلوب حياتنا المعاصرة يقتل كوكبنا بشكل بطيء، ولا عجب إذن إن كانت مجتمعاتنا المعاصرة قادرة على الإضرار بنا أيضاً.
عندما بدأت بالبحث في موضوع توتر الكوكب، وجدت سريعاً مجموعة من العناوين اللافتة للانتباه، بالتأكيد فإن الأخبار مصممة لجعلنا نشعر بالتوتر، وإن كانت مصممة لجعلنا نشعر بالاسترخاء، لما سُمّيت أخباراً، بل ستكون عبارة عن جلسات يوغا، أو عبارة عن جرو لطيف، ولهذا فإنه من الطريف قراءة أخبار القنوات التي تتحدث عن القلق بينما هي أحد أكبر مسببات القلق في حياتنا. وهذه بعض العناوين التي وجدتها: التوتر ووسائل التواصل الاجتماعي تسبب أزمة نفسية لدى الفتيات، الوحدة المزمنة هي وباء العصر، ارتفاع حاد في معدلات المراهقين الذين قاموا بإيذاء أنفسهم، الانتحار في الحرم الجامعي وضغوطات البحث عن الكمال، القلق في أماكن العمل يرتفع بمعدلات كبيرة، جيش من الأطباء النفسيين سيتم إرساله إلى المدارس للتصدي لوباء القلق.
مظاهرنا تُقدَّم على أنها إحدى المشكلات التي يُمكن حلّها بصرف المال (على مستحضرات التجميل، مجلات الرشاقة، أطعمة معينة) ولكن هذا غير صحيح لأن وصولك إلى مستوى أعلى من الجمال التقليدي لن يجعلك تتوقف عن القلق، وكما أن القلق بشأن المال يجعلنا ننفق المزيد منه، فإن القلق بشأن مظاهرنا لن يجعلنا نحصل على مظاهر أفضل. ولا مفر من الشيخوخة، بإمكاننا تناول طعام صحي، ممارسة التمارين والعيش بشكل متوازن، ولكننا سنشيخ في النهاية، عيد ميلادنا الثمانين لن يتغير تاريخه في التقويم، بالتأكيد بإمكاننا أن نحرص على العيش حتى عمر الثمانين، ولكننا لن نستطيع إيقاف عجلات الزمن، وهذا اليقين يجعلنا نشعر بالاطمئنان، عندما نعرف تماماً أننا لن نستطيع تغيير شيء ما، فإن القلق بشأنه سيتلاشى تدريجياً. ملاحظات حول الزمن عندما أفكر في مخاوفي، أغلبها تتعلق بالزمن، أقلق من الشيخوخة، أقلق على أطفالي من الشيخوخة، أقلق من المستقبل، أقلق من فكرة موت أحبائي، أقلق من فكرة تأخري في عملي، وحتى وأنا أكتب هذا الكتاب، أقلق من إمكانية فشلي في تسليمه في موعده، أقلق بشأن الوقت الذي أضعته دون فائدة، أقلق بشأن الوقت الذي قضيته وأنا مريض.
وبينما كنت أقرأ عن فكرة الزمن، بدأت بالتساؤل إن كان مفهومنا للزمن وتصرفاتنا تجاهه قد تغيّرت؟ هل الطريق الوحيدة للتحرر من الخوف تتمثل في أن نبني علاقة جديدة مع الدقائق والساعات والسنوات؟ أشعر أنني إن أردت فهم الطريقة التي يستجيب بها عقلي- وربما عقلك- للعالم الحديث، فإنني أحتاج إلى تأمل فكرة الزمن أولاً، لقد أصبحنا نعمل في خدمة الوقت بدلاً من أن يعمل في خدمتنا، نقلق بشأن الوقت، نتساءل أين تبخَّر الوقت، إننا مهووسون بالوقت.
لقد أصبح العالم أكثر اتصالاً ببعضه، مثل نظام عصبي، عن طريق شبكة الويب العالمية، وبجانب تزايد أعداد مستخدمي الإنترنت، تزايدت ساعات استخدامنا للإنترنت، أصبح البشر متصلين بالتقنية أكثر من أي وقت مضى، وكل هذه التغييرات الجذرية حدثت خلال عقد واحد فقط، وتسبب هذا في العديد من الخلافات على مواقع الإنترنت، وقد كتب تولستوي، سنة 1894، في كتابه مملكة الرب في ذاتك: “كلما تحرر البشر من العوز والفاقة، كلما ازداد عدد أجهزة التلغراف، والهواتف، والكتب، والأوراق، والمذكرات؛ وهكذا يزداد عدد الوسائل والطرق التي يمكن الكذب عبرها، والنفاق من خلالها، وتنتشر مع ذلك الفُرقة والبؤس بين البشر”. وكل هذه الأشياء تحدث في عالمنا الآن وبسرعة تفوق ما كان يحدث في عصر تولستوي، عقل العالم أشبه باستعارة مناسبة لما يحدث الآن، نحن الخلايا العصبية لعقل العالم، نتبادل المعلومات بيننا ونتواصل مع الخلايا الأخرى، نرسل الإشارات ونستقبلها، وهكذا نصبح خلايا عصبية مثقلة بالمعلومات في كوكب متوتر.
لا تخسر نفسك من بين جميع التحديات التي نواجهها في هذا القرن، بينما ننصهر أكثر وأكثر في التقنية من حولنا، قد يكون أهمها هو هذا التحدي: كيف بإمكاننا الحفاظ على إنسانيتنا في خضم هذا العالم الرقمي؟ كيف بإمكاننا التمسك بذواتنا ومقاومة خسارتها؟ إننا بشر، بإمكاننا مقاومة هذا، بإمكاننا مقاومة الانتماء لقبيلة رقمية صغيرة، بإمكاننا اعتناق الحياة في أوسع تجلياتها، إننا نعثر على الطرق المؤدية للحياة دائماً، نعم قد نكون عبارة عن فوضى عملاقة الآن، ولكن قوتنا تكمن في الفوضى، إننا لا نقوم بالأشياء لأنها منطقية فقط، بإمكاننا أن نحول الإنترنت إلى حليف لنا بدلاً من كونه عدواً، الإنترنت يحتوي على عالم كامل، بإمكاننا أن نُشكّله كما نريد، بإمكاننا أن نستخدمه للذهاب إلى أي وجهة نريدها، ولذا علينا أن نحرص أننا نحن- ليست التقنية، لا المهندسين ولا المصممين الذين يتلاعبون بأمزجتنا- بل نحن الذين سنقوم باختيار مستقبل الإنترنت.
هناك بعض العوامل الوراثية التي قد تؤثر على صحتنا النفسية، ولكننا لا نستطيع تغيير جيناتنا وصفاتنا الوراثية، لذلك فإنه من المثير للاهتمام النظر إلى العوامل العابرة، المحفزات التي تتغير مع تغير الحقب الزمنية والمجتمعات، وهذه هي العوامل التي بإمكاننا تغييرها. هنالك حقب تاريخية أخرى كانت سيئة بالنسبة للصحة النفسية، ولكن إدراكنا لهذه الحقيقة يجب ألا يمنعنا من محاولة حل مشاكل حقبتنا التي تؤثر على الصحة النفسية.
وأحد أعظم الأشياء التي يجب علينا إدراكها، أنه إن كان قلقنا عبارة عن منتج من منتجات ثقافتنا، فإنه بإمكاننا تغييره عبر تغيير ردود أفعالنا تجاه تلك الثقافة، في الحقيقة، لا ينبغي علينا أن نتغيّر بشكل كامل، بإمكان التغيير أن يحدث بمجرد وعينا بضرورة حدوثه، وعندما يتعلق الأمر بعقولنا، فإن الوعي غالباً ما يكون حلاً بحد ذاته. كما أن هنالك كوكب أرض واحد- بكمية محدودة من الموارد- فإنك إنسان واحد أيضاً، ولديك كمية محدودة من الموارد، ولنفكر بواقعية، لا يمكنك مضاعفة نفسك، لا يمكنك اللعب بكل الألعاب، لا يمكنك استخدام كل التطبيقات، لا يمكنك الذهاب لكل الحفلات، لا يمكنك القيام بعشرين شخص، لا يمكنك متابعة كل الأخبار، لا يمكنك ارتداء أحد عشر معطفاً في الوقت ذاته، لا يمكنك مشاهدة كل المسلسلات، لا يمكنك العيش في أكثر من منزل في الوقت ذاته. بإمكانك شراء المزيد من الأشياء، بإمكانك امتلاك المزيد، بإمكانك مضاعفة عملك، بإمكانك الركض خلف الرغبات، ولكن عندما تنتهي هذه المتع المؤقتة ستأتي لحظة تسأل فيها نفسك: ما معنى كل هذا؟ ما هو مقدار السعادة الإضافية التي أشعر بها؟ لماذا أشغل وقتي في جمع ما لا أحتاجه؟ ألن أكون أسعد إن تعلَّمتُ تقدير الأشياء التي أمتلكها.
في الختام كل الأشياء المميزة بشأن البشر، قدرتنا على الحب وإنتاج الفنون وتكوين الصداقات والقصص، لم تكن نتيجة للحياة المعاصرة، بل إنها نتيجة لكوننا بشراً، وهكذا، رغم أننا لا نستطيع فصل أنفسنا من قلق الحياة المعاصرة، إلا أنه بإمكان وضع أذن قرب ذواتنا البشرية (أرواحنا) للإصغاء إلى السكون الصامت للوجود، ولإدراك أننا لا نحتاج لإلهاء أنفسنا عن أنفسنا، وبملاحظتنا للطريقة التي تؤثر بها الحياة المعاصرة علينا، وبتقبّلنا للتغيير عندما يكون التغيير ضرورياً، بإمكاننا التفاعل مع هذا العالم الجميل دون خوفنا من أن تُسلب ذواتنا وأرواحنا الثمينة.