مدونات
قد لا يتكرر حدث “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 مرة أخرى في القريب المنظور، ليس بِبُعده الاستراتيجي والعملياتي الذي لم يكن لأحد أن يتوقعه بالكيفية التي جرت به أصلًا، ولكن بالفرص التي منحها لقطاع كبير من الإسلاميين العرب ولاسيما الإسلاميين المصريين بعد ضربات قاصمة تلقّوها في صيف عام 2013 لم يستطيعوا النجاة على إثرها والبقاء على الساحة السياسية، والتي لم تعد موجودة بدورها هي الأخرى بفعل الحكم العسكري الذي تعاني منه مصر.
تُعرف التنظيمات السياسية والاجتماعية المحترفة بقدرتها على استغلال الفرص المتاحة في سياقات قد تبدو استثنائية، وبقدرتها على إعادة التموضع كلما سنحت الفرص بذلك، وبالانطلاق من العمل على قضايا ذات تأييد شعبي ومتفق عليها كي تعود مرة أخرى من خلالها للفاعلية السياسية والاجتماعية، وهو ما وفّره طوفان الأقصى للإسلاميين المصريين على وجه الخصوص من فرصة قد تبدو في نظر نخبهم السياسية غير مواتية نظرًا لإخفاقهم في الحكم وخروجهم من الفاعلية السياسية، والقمع الذي لم تهدأ وتيرته منذ 11 عامًا، وهو ما سنردّ عليه في هذا المقال.
أتى “طوفان الأقصى” ليمثل فرصة تاريخية للإسلاميين للعودة إلى الفاعلية مرة أخرى لعدة أسباب -كتبت عنها في نوفمبر الماضي- أولها مقبولية الخطاب الإسلامي بعد أن شُنّت عليهم حملات قمعية وإعلامية قادتها أنظمة عربية وغير عربية، بالإضافة إلى الإرث التاريخي في مساندة القضية الفلسطينية، والفراغ الذي حدث بعض خفوت نجمهم السياسي والاجتماعي في عدة دول عربية.
وتكاد تكون أكبر الفرص التي منحها “الطوفان” للإسلاميين المصريين للأسباب التي ذكرناها سابقًا، هي فرصة إعادة بناء التنظيمات التي تعتمد في غالبها على عنصر الشباب، وهي السمة التي تميّز التنظيمات الإسلامية عمومًا بقدرتها على الحشد والتجنيد بين العناصر الشبابية. بدا الشباب متحمسًا لفعل المقاومة الفلسطينية الإسلامية، التي أعادت لكثير منهم الأمل في فاعلية الحركات الإسلامية، وتجاوزها الخيال المحدود، وانحسار دورها في سردية الضحية، واستقرت الحركات الإسلامية قبل ذلك في أذهانهم بأنها قد تجاوزها الزمن بعد ما حلّ بها بعد الثورات المضادة لاسيما في مصر وتونس البلدين التي كان الإسلاميون فيها جزءًا من انتقال ديمقراطي لم يُكتب له النجاح لأسباب عدة منها عدم رغبة الكيان الصهيوني بوجود ديمقراطيات عربية وديناميات داخلية تتعلق بطريقة حكم الإسلاميين أنفسهم وتعاملهم مع إرث الدول التي حكموها. وراح عدد منهم يؤمنون بأطروحات “ما بعد الإسلاموية” في إيمان تام بتجاوز الزمن لكلاسيكية هذا النمط من الحركات السياسية، وعدم تصديق لإمكانية أن تعود الحركات الإسلامية إلى الفاعلية إلا بعد زمن طويل.
يمكن القول أن عدم ظهور نخب شبابية تمتلك منصبًا تنظيميا بعد عزوف كثير منهم عن العمل التنظيمي بفعل المنفى ونتيجة للصدمات النفسية التي عايشوها من فشل تنظيمي وتعبوي وسياسي قد أخّر من البدء في إعادة بناء التنظيمات وأبقى نفس القيادات التي فشلت فشلًا استراتيجيا قبل 11 عامًا وأخفقت في إدارة مكاسب الثورة وفي معركة البقاء بلا إزاحة حقيقية، فضلًا عن اعتبار انتقاد قيادات الحركات الإسلامية المصرية نوعًا من الخروج عن التقاليد التنظيمية أو محاولة إسقاط التنظيم، وهذا على عكس المتّبع في حركات إسلامية عربية أخري استطاعت احتراف فنّ البقاء رغم محاولات الاسقاط، لهذه الأسباب لم يكن هناك من عنصر الشباب من هو على قدر عال من الجاهزية لاستئناف عمل تنظيمي قد يعيد للتنظيمات البالية حيويتها في وقت حرج كهذا! أو بعبارة أخرى لم يكن هناك من هو على قدر الحدث نفسه!
ومسألة استغلال الفرص حاضرة في تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، ولعلّ أبلغ الأمثلة على ذلك; التكوين التنظيمي الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر في سبعينيات القرن الماضي على يد شباب الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية، الذين تلاقوا مع من تبقى من قيادات الإخوان الذين اعتقلوا في عهد عبد الناصر وأفرج عنهم السادات، واتفقوا على استغلال الفرصة المتاحة للعودة التاريخية لإحياء الحركة الإسلامية ككل في سبعينيات القرن الماضي والتي لم تنطفأ جذوتها إلا في 2013، هذا الإحياء الذي يعتبره باحثون التأسيس الثاني لجماعة الإخوان المسلمين.
قد يضيّع الإسلاميون المصريون -وإن كانوا في المنافي- فرصة تاريخية عليهم العودة بها إلى الفاعلية السياسية والاجتماعية بلمّ شمل التنظيم قبل أي شيء، وعلى عكس من اعتبار ذلك أولوية تقتضيها سردية “نصرة فلسطين” تحوّل كثير منهم إلى “أولتراس السهم الأحمر” في ظاهرة كشفت عن عجز كبير عن امتلاك أي فعل سياسي أو اجتماعي، واكتفت بتشجيع أفعال المقاومة دون أن يكون لهم فعل مؤثر في ميدانهم الأوليّ الساحة السياسية المصرية، ودون الانتباه إلى أن عليهم التواجد ليس كجماعة اعتذارية حين يأنف الآخرون عن الاعتذار، ولا كجماعة لوّامة تلوم المكونات الأخرى على أخطائها دون مراجعات ذاتية حقيقية، أو شمّاته في فشل الآخرين، أو منّانة على المجتمع بدورها الاجتماعي والسياسي الذي يحتّم عليها وجودها فعله، دون منّ منها أو تفضّل. يحتاج الإسلاميون إلى العودة إلى الساحة السياسية لاسيما في هذه اللحظات الحرجة التي لا يكفّون هم عن ترديد أنها حرجة لكن دون تحرّك حقيقي!
ورغم أن الحجّة التي سيقت دائمًا التي تقول بأن الحركات الإسلامية لم تعرف العمل العام في مصر إلا نادرًا بسبب القمع الذي لازمها منذ أن أعلنت عن دخولها معترك السياسة بعد عقد من نشأتها، وتعاقُب الأنظمة السياسية على قمعها وإن بدرجات متباينة، إلا أن العقد الفائت من انتقال ثقل الجماعة التنظيمي إلى المنافي يدحض هذه الحجّة، وتبرهن المحاولات الكثيرة لتأسيس تحالفات في الخارج فشلت كلها لأسباب أعفي مقالتي هذه من الحديث عن تفاصيلها، وتوجّها نحو بلدان لم تقمعها، ومنحتها فرصًا من العمل العام فشلت جميعها، تبرهن هذه المحاولات على وجود الفرصة وعلى فشل الجماعة كذلك في اقتناصها بسبب الاستراتيجيات الخاطئة التي سلكتها، إلى الحد الذي ألخصه بتولّي أمر الجماعة في المنافي من لا يعرفون العمل السياسي أصلًا، ولا يعرفون ثقل الجماعة التنظيمي، ولا يدركون المكانة التي وضعها في أعداؤها الذين لم يكفوا ليل نهار عن الترويج لما يسمونه “مؤامرة إخوانية”، وأنتج ذلك ما وصلت إليها الجماعة من ضعف وتشتت، والحركة الإسلامية المصرية بوجه عام، ورغم ذلك تحضر إجابتها دائمًا: “العالم كله متحالف علينا”.
بعد عقد كامل في المنفى كان على الحركات الإسلامية أن تشهد ميلاد تنظيمات أقوى تماسكًا في الخارج تحافظ بها على مصالحها التي عليها أن تعرّفها مسبقًا أصلًا، هذا النوع من التنظيمات الذي يبقيها ناجية من بطش القمع في حالة امتلاك فرصة أخرى من العمل السياسي والاجتماعي، أو يجدد من أفكاره التي وُضعت قبل قرابة قرن من الزمان في سياق يختلف تمامًا عن سياق توحش الدولة، ومع انتفاء القمع في الخارج لم يعد هناك من يتحدث عن وجود القمع كعائق أمام تجديد الأفكار. تحوّلت الحركات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين المصرية إلى جماعة أقل من تنظيم، وأكثر من مجموعات من النخب المنفية، وحوّلها طول منفاها إلى كيان متضخم بفعل الإرث التاريخي العريض الذي تحمله على عاتقها، والذي لا يدركه المختلفون على تولّي قيادتها!
أتى طوفان الأقصى لينسف التذرّع بالقمع وضرب مثالًا بحركة محاصرة لسنوات استطاعت إلحاق أكبر هزيمة عسكرية وأمنية بكيان طفيلي يدعمه الغرب كله، وأقام الحجة على الجماعة الإسلامية الأكبر في الوطن العربي، والتي كان بلائها وإخفاقها في إحباط هزيمتها وإخراجها من الحكم وبالًا على قطاع غزة. تتحمل الجماعة وزر ضعفها وفشلها الاستراتيجي الذي أودى بها إلى خارج سدّة الحكم في البلد العربي الأكبر والذي يشارك نظامه في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني بضعفه أمام العدو الصهيوني. ويحتم عليها ذلك ألا تضيّع الفرصة التاريخية التي لازال فيها رمق!