مدونات
القصص التوراتي في طوفان الأقصى
لم تغب الأساطير والقصص التوراتية والخطابات الدينية عن السياسيين والدبلوماسيين في الحدث الذي فضح وجه العالم على أرض فلسطين المحتلة حيث كانت المفارقة الأكثر غرابة في معركة “طوفان الأقصى” لمّا أعاد “بنيامين نتنياهو” الصراعات التاريخية على المشهد المعاصر فاستشهد بـ”يوشع بن نون” وحربه مع العماليق ليُبرّر قتله وجرائمه ضد الأطفال والمدنيين والحجر والشجر ليأتي كذلك وزير الخارجية الأميريكي “أنتوني بلينكن” مؤكدًا في بدايات المعركة بأنه لا يساند الصهيونية بوصفه رئيسًا للخارجية فحسب بل بكونه يهوديًا فرّ جده من القتل!
وقد أعادت هذه التصريحات الذاكرة إلى خطاب رئيس الولايات المتحدة الأميريكية “جورج دبليو بوش” بعد أيام قليلة من أحداث 11 من سبتمبر حين وصف الهدف الأميركي الجديد “الحرب ضد الإرهاب” بـ “الحملة الصليبية”! وهنا يكمن المغزى الأعمق لإشارة بوش كما يقول “جيمس كارول” ناقدًا فيذكر أن هذا الإعلان أسس العنف على أنه الشيء المناسب تمامًا بل هو من شيم الفروسيّة وهو الاستجابة الأولى لما هو خطأ في العالم.
ولطالما استنكر الغربيون فكر العالم الشرقي المسكون بالتاريخ والذي يحتفظ بالسرد الماضي ليغذي مشاعر المرارة والحقد في حين أنهم وحتى أيامنا هذا هم ضمن هذا الاستنار؛ إذ لا تزال الحروب الصليبية تغذي الرعب الشديد والخوف والحقد في الغرب. وقد تكون الحروب الحديثة قد بدأت بروح علمانية إلا أنها اكتسبت زخمًا دينيًا متعاظمًا كما تقول “كارين آرمسترونغ”.
وقد يخيّل إلينا أننا في عالم “علميّ وعلمانيّ” لكننا نجده عالمًا مليئًا بحماسات وعصبيات دينية فنجد ذلك التعلق الشديد بالفضاء المقدس والذي يحرّك سياسات عالمية برمّتها فلا يزال هذا الولع الملتهب بالأماكن المقدسة قادرًا على أن يحمل الناس على ممارسة العنف والعدوان تمامًا مثلما كان يفعل فيهم زمن الحملات الصليبية.
الغزو الصليبي والصهيوني وجهتان لعملة واحدة
إن هذا التنقل بين الغزو الصليبي والغزو الصهيوني ليس مجرد سياحة للعقل فكثيرًا ما يرى الباحث وجه التشابه بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني بل إن دولة الاحتلال الإسرائيلي أقامت مراكز بحثية تُعنى بالحملات الصليبية ودراسة تلك الحقبة إلى زمن التحرير على يد الناصر “صلاح الدين الأيوبي” ومن جانب آخر يرى “عبد الوهاب المسيري” في تحليله للصهيونية بأنها حركة لا يمكن فهمها بمعزل عن الاستعمار الاوروبي والعقليّة الإحلاليّة والتي كانت الحروب الصليبية جزءً من هذه العقلية.
والحركة الصهيونية جنديّ الاستعمار الأوروبي التي تقوم برعايته ودعمه وحمايته بشكل غير مشروط. وبذلك نجد أن مطامع الاستعمار في المنطقة وافق المطامع الصهيونية فتبنت المشروع وجعلته الحارس المخلص لمصالحها في الوطن العربيّ. وقد أثبت ذلك من خلال محطات ومواقف سياسية طويلة كان آخرها الموقف الفج الواضح من الوقوف مع دولة الاحتلال رغم كل الانتهاكات الإنسانية والقوانين الدولية.
وبما أن الدّولة الصهيونية وليدة الاستعمار وتتقاطع مع الحروب الصليبية في كثير من المتشابهات فإنها تبحث عن المستقبل وهي مندفعة نحو الماضي، يتحدث “شاكر مصطفى” بأن هذا الاندفاع نحو الماضي تجده في دين الغزاة ولغتهم ورجالهم وقيمهم وتشريعاتهم ورموزهم وطواقي رجالهم كلها موصولة مع الماضي بخيوط عنكبوتية ممدودة، لهذا تشكل الصليبيات جرحها الذي تريد أن تتجاوزه ، فلقد أدركت أهمية الإفادة من التجربة الصليبية من احتلال فلسطين والشرق الإسلامي وعدم التمكن من المحافظة على تلك البلاد والاستقرار فيها فكان عليها دراسة التجربة وتقدير مواطن الضعف وتجاوز أخطائها.
وإن من أهم الاستنتاجات التي توصل إليها ” شاكر مصطفى” بعد أن صادف في واحدة من المكتبات مؤلَّفًا مهمًا بعنوان “الإسلام والصليبيات” لـ “عامانويل سيفان” هي الآتية:
أولًا: أن الجماعات اليهودية التي تحتل فلسطين تدرك تشابه غزوها واحتلالها للبلاد مع الغزو والاحتلال الصليبيين، تدرك ذلك بوضوح و تعالجه جديًا في المنظور العلمي كتجربة رائدة.
ثانيًا: أنها تدرس في الشرق العربي والإسلامي من جذوره، وتحلل عناصره لتتفادى نهاية كنهاية حطين وما بعد حطين.
ثالثًا: ثمة فِرق عمل كاملة في الجامعة العبرية تتخصص في هذا الموضوع على رأسها “جوزيف براور” صاحب كتاب “تاريخ المملكة اللاتينية في القدس” وتستعين هذه الفرق بالعلماء المتصهينين في الجامعات الغربية لهذا الغرض فلهم مراكز بحث ومستشارون في جامعة باريس كـ “كلود كاهين” و في الجامعات الأميركية كـ “أشتور شتراوس” و “أيالون” المختص بالعصر المملوكي و “غويتاين” الذي كتب عشرات الأبحاث حول قدسية القدس والصليبيات واليهود والإسلام.
ذاكرة الشعوب الإسلامية تستذكر الحروب الصليبية في ظل الصراع الراهن
إن المقاربة الصهيونية الصليبية لتفادي الأخطاء والتعلم من الماضي لم تغب عن العقلية العربية والإسلامية التي رأت الفظائع التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني تتشابه مع تلك الفظائع التي ارتكبها الصليبيون ضد المسلمين. كما أن هذه الحلة الدينية والعنف المقدس والأيديولوجية الدينية التي تحرك السياسات داخل الدولة الصهيونية تشبه تلك الحلة الدينية التي أضافها الأوروبيون على الحملات الصليبية التي تختبؤ خلفها الأطماع العسكرية والسياسية والاقتصادية.
وكلّ من هاذين المشروعين مرتبط بالاستعمار فلسفة وتطبيقًا؛ فكلاهما كيانين غريبين في المنطقة العربية. فلم تستغرب “آرمسترونغ” عند زيارتها للقدس وجود القلاع الصليبية الحصينة والتي تذكر بأنه ثمة دولة غريبة قد زرعت نفسها في عالم إسلاميّ معادٍ لها وبذلك فإن القلق حاصل بشدة في شأن أمنها القومي تمامًا كقلق دولة الاحتلال اليوم الذي ينتابها الخوف من التفكك والزوال فكان دوام استحضار لعنة العقد الثامن من قبل الساسة والمفكرين الإسرائيليين.
فرخ البطّ عوّام
عند تأسيس رؤية واضحة للباحث العربي والمسلم حول كيفية زرع كيان الإحتلال في المنطقة العربية من قبل العقل الأوروبي الإحلالي والاستعماريّ يمكن الوقوف على صفات عديدة مشتركة بين الغزو الصهيوني والصليبيّ، إذ ليست الصهيونية إلا ثمرة للصليبيات القديمة والتي كادت ثمرتها أن تؤكل لتأتي تباعًا النبوءات الإنجيلية. ويمكن إجمال هذه الصفات المشتركة:
أولًا: العنصرية؛ وهي من أبرز الصفات المتأصلة في الكيان الصهيوني وأساسية ودائمة، لأنها نابعة من صميم العقيدة الصهيونية التي ترى البشرية خدمًا عند شعب الربّ. وبالفعل نجد ترجمةً لهذه العقيدة في دولة الاحتلال الذي يمارس نظام التمييز والفصل العنصري ضد الفلسطينيين. وقد انتهت هذه الصفة المتأصلة إلى ثلاث نتائج: الانغلاق العنصري، والتمييز العنصري، والتفوق العنصري. وهذا الشعور بالتفوق العرقي نجده تمامًا في الصليبيات إذ عبروا عن هذه النزعة ضمن إطار من التعايش التراتبي الطبقي الاستعلائي مع أهل المنطقة. وادعى الصليبيون كما ورد في نصوص الخطب التي أوردها المؤرخون للبابا “أوربان الثاني” أن المسيحيين الكاثوليك هم شعب الله المختار لتنفيذ مهمته بهزيمة أعداء الرب في أرض صهيون ولأن العقيدة المسيحية تقوم على أساس أن المسيحيين هم بنو إسرائيل الجدد.
ثانيًا: ومن الصفات المشتركة التوسع الإقليمي، وتعبر الحركة الصهيونية في كتاباتها وخطب السياسيين والمفكرين عن الأطماع في إعادة مملك داود وتمثلت هذه الأطماع من خلال ضمّ و احتلال أراضٍ عربية كالجولان وشنت حروبًا على مصر والأردن بغرض التوسع لكن حيل بينها وبين أطماعها. ولا ننسى الجماعات اليهودية التي رأت في مرض شارون عقابًا من الربّ لخروجه من غزة! ويُذكّر هذا مؤخرًا بـ” يائير نتياهو” الذي كتب عبارة ” من النهر إلى البحر.. هذا العلم هو كل ما سترونه” عبر حسابه على الإنستجرام وأرفقه بصورة علم الاحتلال الإسرائيلي. أما الحملات الصليبية فقد استطاعت التوسع والامتداد في العديد من المناطق العربية وامتدت المطامع إلى مصر وتونس لكنها واجهت مقاومة إسلامية حالت دون هذا التوسع.
ثالثًا: أحد الصفات المشتركة المهمة كما يذكر “محمد المختار الشنقيطي” هي استمداد أسباب البقاء من الخارج، ويذكرنا هذا بالمساعدات التي وصلت إلى أكثر من 14 مليار طلبها الرئيس الأميركي”جو بايدن” لدعم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر في بدايات معركة طوفان الأقصى وتصريحه المباشر لما قال: ” إن إسرائيل يجب أن تعود مكانا آمنا لليهود، و لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”!
وإن هذه التماهي الأميركي مع الشعب اليهودي ليس جديدًا قد ظهر في وقت مبكر جدًا في تاريخ الصهيونية، إذ استقبل وعد بلفور استقبالًا حماسيًا منقطع النظير في أميركا، وأيده الرئيس ” وودرو ويلسون” تأييدًا تامًا رغم أنه يعارض روح المبادئ الأربعة عشر التي تشجب الاتفاقيات المنفردة، وتنادي بحق الشعوب بمبدأ تقرير المصير. غير أن ويلسون نشأ على التعاليم البروتستانتية الأميركية وكان صهيونيًا بطبيعته. وكذلك الحملات الصليبية لم يستطع لها البقاء إلا من خلال الإمدادات التي كانت تمدها إياها الدول الأوروبية.
رابعًا: كما أن الصفات المشتركة للمشروعين هي الأعراق المتعددة التي يجمعها دين واحد، فالحركة الصليبية شملت كل أوروبا فتحركت جيوش من النرويج والسويد والدنمارك وإنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر، كذلك عملت الصهيونية على جمع شتات اليهود في كل العالم وتوجهت بهم نحو فلسطين فنجد يهود الأشكناز، والسفراديم، والفلاشا والذين لا يعيشون ضمن حقوق متوازية بل نجد عنصرية الأشكناز ضد الأعراق الأخرى، بل إن تعدد الأعراق يضرب أسس الصهيونية التي تقول بالعرق اليهودي فنجد أن اليهود اليوم ليسوا الأبناء التاريخيين لبني إسرائيل وقد كتبت العديد من الكتب في توضيح ذلك وأهمها كتاب القبيلة الثالثة عشرة لـ “آرثر كوستلر”.
خامسًا: ومن أشكال التوازي والتشابه في المشروعين هو الهدف والشعار لكل منهما والذي يحمل صورة أسطورية وهو تحرك الصليبيين لتخليص القبرالمقدس وتحرك الصهيونيون لتخليص الهيكل المقدس. ولا تزال حفريات حثيثة تحاول الوصول إلى أثر لهيكل سليمان المزعوم لكن دون فائدة إلا فائدة الحماس الأيديولوجي والديني التي يغذيها الهيكل في نفوس اليهود. وقد ذكر الناطق باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” في أحد خطاباته إبان معركة طوفان الأقصى عن البقرات الحمر التي استوردتها دولة الاحتلال إيذانًا لبناء الهيكل.
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار
رغم هذه المتشابهات بين المشروعين الإحلاليين إلا أنه ثمة فروقات فيما بينهما بالدين الذي قام عليه كل من المشروعين والشرعية المستمدة أحدهما من البابا والآخر من الرب والشعب المختار. غير أن اللحظة التاريخية تلك ودراستها ليس لوضع جدولة في المتشابه والمتغيّر بقدر ما هو أخذ للعبرة، فلولا التاريخ كما يقول “العماد الأصبهاني” -الذي أرخ للفتح القدسي-: لضاعت مساعي أهل السياسات الفاضلة.. ولقل الاعتبار بمسالمة العواقب وعقوبتها، وجهل ما وراء صعوبة الأيام من سهولتها، وما وراء سهولتها من صعوبها.
ومن الممكن أن نشير إلى الأسباب التي استنتجها الباحثون التي عملت على تحرير الأرض المقدسة والعالم الإسلامي من الغزو الصليبي، ومن هذه الأسباب التي نأخذها للعبرة أو”الاعتبار” على شاكلة ما كتبه “أسامة بن منقذ”:
أولًا: دور العقيدة ويمكن الاستشهاد بالشاعر “ابن القيصراني” الذي ولد بعكا وظل فيها حين سقطت فنجد في شعره الحديث عن الجهاد واستمداد الإيجابية والعمل من العقيدة وليس حديثه عن الحزن والبكاء.
ثانيًا: توطين النفس على الجهاد والحرب والعناية الفائقة بفنون الحرب التي عرفت في تلك الفترة، والاستكثار من السلاح والعدة والخيل والمنجنيقات واخترعوا أشياء في هذا الباب أدهشت الفرنجة وبخاصة يوم حصار عكا.
كما ألف “مرضى الطرسوسي” لـ”صلاح الدين” رسالة قيمة في التسليح وهو رائد في مسار تأليف الرسائل العسكرية، كما انتعشت فكرة الحرب المقدسة وتم الرد على الدعاية الفرنجية حول الأهمية التي توليها للأرض المقدسة مما أيقظ انتباه المسلمين إلى ما يميزها عن بقية المدن بوصفها مدينة المسرى وهي التي وضع فيها الخليفة “عمر بن الخطاب” أول لبنة في مسجده، وازدهر كذلك أدب الفضائل بشأن القدس.
ثالثًا: بروز القيادة الفكرية والسياسية وتلاحمهما معًا، فهنالك “أبو حامد الغزالي” الذي كتب “إحياء علوم الدين” والذي يصل بنا إلى بناء فرد ينطلق في طريق الجهاد. و”ابن شداد” أحد القيادات الفكرية الواعية الذي حرص “صلاح الدين” على أن يكون بجانبه. والقاضي الفاضل ” عبد الرحيم البيساني” الذي قال عنه “صلاح الدين” : لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل.
أما القيادات السياسية فهنالك حلقات ذهبية بدأت بـ “عماد الدين” ثم بابنه “نور الدين” ثم بأسرة “أيوب” وأخوه”أسد الدين شيراكوه” وأولاد صلاح الدين والمماليك من بعدهم كـ”بيبرس” و “قطز”. وسنلاحظ أن هذه القيادات أدركت جيدًا كيف تكون المواجهة ووظفت جيدًا حقيقة المكان ووعت قدراتها وذاتيتها، ووعت قدرة العدو وجوانب ضعفه.
إنه عند تقييم هذه التجربة التاريخية سنجد أنها تشغل الفكر العربي والإسلامي بقدر ما تشغل الفكر الصهيوني والغربي وستظل هذه الحقبة التاريخية عقدة تؤرق الاستيطان الإحلالي واستقراره وتؤكد بأنه عبارة عن كيان مستأجر تفكيكه وانهياره قريب.