سياسة

قريبًا من السجن، بعيدًا عن الحريّة

أغسطس 20, 2024

قريبًا من السجن، بعيدًا عن الحريّة


“قضيتُ العمر أدافع عن قيثارتي، فلم أحصل على فرصة لغناء ما أريد”.. لم أكن أتصوّر، حتى في أسوأ كوابيسي أن ينقضي عامي الأوّل خارج المعتقل على هذه الصورة!


ليست هذه هي الحريّة التي انتظرتُها لسنين، على هذه الحال التي كانت وما جرى فيها، وما زال أثرها باقيًا كأنّه ابن الأبد! نفي الحريّة بكلّ تعريفاتها وإحالاتها الراسخة في النفوس، بجانب ترسيخ شعور الارتهان/الاحتجاز كغرض شبه نهائي من السلطة، تجاه كلّ خارج من المعتقل، هو أوّل الخطى نحو الصدام أو الجنون، أو السقوط المُتمَنّى، لكنّه على كلّ حال هو القصد.


تبدو ناجحة -للآن على الأقل- خطّة الحصار والمنع مع الشيطنة، دافعة للصدام “مش قلنا لكم مش لازم يخرج؟” و لترسيخ وجود الباقين في الداخل بلا فرص للخروج ” لو خرجوا هيعملوا زيّ فلان وهيحرجونا”.


المعارك القسريّة اليوميّة استنزاف، واحتمالات التراجع عن خوضها محالة، ليس عن قوّة أو فيض طاقة، أو حتى اختيار لهذه المعارك كأولويّة في هذه اللحظة، إنّما لأنّ التراجع إشارة تجعل الذي يناقش اليوم “مضمون هتافك، أو سقف مقالك، أو صيغة كتاباتك” سيبدأ فور تراجعك من وجودك ذاته، لا فقط حقّك في الكتابة أو الهتاف أو الكلام.


يتحقّق واقعًا ما قيل لي وأنا على عتب الخروج “اعتبر نفسك في سجن أوسع شويّة، تقدر تختار أكلك ولبسك وتتفسّح وت….، مش أكثر من كده”، بلا أوراق رسميّة وبلا سفر وبلا احتمال حريّة قريبة، لكن يتحقّق كذلك ما وعدتُ به “لن أقبل، سأجتهد قدر طاقتي وزيادة لتكون الحرية التي انتظرتها، لا التي تم صرفها لي على مقاسكم”، بعيدًا عن ثمن ذلك أو تبعاته.


بل وتزيد الحال سجنيّةً، بأن يردّدُ الببغاوات على هامش السلطة خطاب الأجهزة التي تعتقل وتسجن وتختطف وتُخفي وتعذّب بنفسها وفي مقرّاتها، من قبيل “دومة خرج وقفل الباب وراه”؛ وهو ما ليس حقيرًا وملفّقًا فحسب، إنّما يرسّخ جريمة تخريس الكلّ واتخاذ رهائن خارج المعتقل ومساومتهم على رهائن داخل المعتقل بلا سلوك يقول بأنّ تغيّرًا سيحدث.


والحال أصدقُ من المقال، إذ جرّب الكثيرون من الخارجين إلى الحريّة أن يتحمّلوا ثمن الصمت ليحصلوا على رفاقهم ويشاركوا في إنهاء أزمة المعتقلين، هل تعرف ما الذي حدث؟ هل تعرف كم معتقلاً أضيف؟ كم حكمًا صدر؟ كم مختفٍ لم يظهر بعد؟ كم ألف وعدٍ بأسماء بعينها ومواعيد بعينها لم يفِ بها أصحابها بتلاكيك فارغة؟


ومازالوا يرددون تلفيقاتهم، تخلّصًا من عبء المسئوليّة: إذا اتهموا المعتقلين السابقين بأنّ سلوكهم وأدائهم هو السبب سيتمكّنوا من انتقادهم أو حتى مهاجمتهم وهم لا يمتلك أدوات الردّ، أما إذا أقرّوا بجريمة المجرم الحقيقي سيلزمهم إعلان ذلك، وهو ما سيجعلهُم معتقلين على أهون تقدير؛ الأيسر إذًا إعادة انتاج خطاب السلطة وتحميل الخارجين من المعتقل ذنب الباقين بالداخل، و”يتحرقوا في بعض”.


لم تكن مصر في حال أشدّ بؤسًا وتقزّمًا ممّا هي عليه الآن، ولا أظنّ هذا سيطول كثيرًا، لا بحكم الحتميّة وحدها، إذ لا تتحرّك الأحداث بدون محرّك، لكنّ السلطة كما تتقافز على المراحل تقافز القردة، توفّر من حيث لا تدري -أو لا يسمح لها الغرور بأن تدري- ذات المراحل على خصومها الكثيرين للغاية الذين صنعتهم على مدار رحلتها البئيسة مع هذا الوطن المسكين ومن فيه.


لعلّ أحدًا في تلك القصور الكثيرة (البعيدة عن الوطن وأهله) يعيد النظر وينهي الجريمة، على الأقلّ ليُمرّر ما يدّعيه من فقّاعات “الحوار الوطني”، و”مؤتمرات الشباب” و”الاستراتيجيّة الوطنيّة” إلى آخر قائمة الوهم المتضخّمة الفارغة، أو ليمنح مصداقيّة أو ثقة ما لـ “العقلاء” الذين يبشّرون بإمكانيّة الإصلاح وقرب الانفراجة الموعودة عند جمهورهم.


ولعلّ هؤلاء “العقلاء” بحاجة ماسّة وعاجلة لإعادة النظر في غاياتهم المتأخّرة، وكُلفة هذا التأخّر الذي يقعُ بقدر كبيرعلى عاتقهم هم كما السلطة، منذ تخلّوا عن القيام بأدوارهم على الصورة التي تليق بحقيقة الصراع وحجم الكارثة.


عام كامل مرّ على هذه الصورة، بالتوازي مع الإبادة الدائرة في فلسطين، يُبيّن الفارق حين يُحبس الوطنيين الشرفاء الذين يعرفون عدوّهم وقضيّتهم وينحازون لها بوضوح وحسم، وهو-ربما- ما يُفسّر الإصرار على إبقائهم بالداخل إلى ما لا نهاية .


لعلّ القادم يأتي بالتحرير، والحريّة لفلسطين وللأسرى والمعتقلين، ولكلّ بلادنا السجينة..


شارك