مدونات
“وهل يعرفُ الثّورُ أني عنترة؟”، مقولة مشهورة لعنترة بن شداد حين سخر الناس منه، كيف يَفِرّ وهو الفارس المبرز، فقال قولته الشهيرة للتمثل بها حين تكون الهزيمة أشرف من موت رخيص.
ذكرني بتلك المقولة الناقد الكبير عبد الله الغذّامي في حديثه عن جماليات الهزيمة، والتي أخذتني بدورها إلى بشاعة الهزيمة وقبح المنهجية التي انتهجتها الدول العربية خلال نكباتنا المتراكمة. يطلب الكثيرون من المقاومة في غزة أن تتقبل الهزيمة، ويرون أن حجم الخسارة في الأرواح والبنية التحتية والإبادة الحاصلة أكبر بكثير من توقعات حماس، ولا تساوي ما أفضت إليه أرض المعركة من نتائج لصالحها، وفي الوقت ذاته يطلب كثير من الإسرائيليين من نتنياهو أن يعترف بهزيمته ويقدم استقالته؛ لأن حجم الخسائر التي تكبّدتها إسرائيل أكبر بكثير من حجم النتائج لصالحها. فأيهما الثور وأيهما عنترة؟ المقاومة أم نتنياهو؟
إنّ تعامل الأمة العربية مع الهزيمة، يعارض ما جاء من دروس في التاريخ واجتهادات المؤرخين، فمن المفترض أن الهزيمة تستنهض الإرادة القومية الجماعية، وهو أمر لم يتحقق، بسبب انهيار المشروع القومي، قبل الهزيمة وبعدها، وذلك الركود المستبد الذي هو تعطيل للتاريخ وسيرورته، يقول المؤرخ الألماني راينهارت كوزليك: “الانتصارات الكبيرة تنطوي على أخطاء كبيرة، وتربك صاحبها” وصاحبها الإسرائيلي يضع المهزوم على بداية طريق عقلاني جديد، لكن العرب المهزومين فشلوا في استنتاج الحكمة وبرهنوا أن “الهزيمة الكبيرة” أعادت صنعهم وأخذت بيدهم إلى ثنائية العجز والاستنقاع، لأن القائمين على شؤونهم انتبهوا كثيرًا إلى حياة سلطاتهم، وقذفوا بحياة الأوطان إلى مواقع هامشية، ولا غرابة في أن ينتهي الاستنقاع طويل العهد، إلى “احتضار” العالم العربي، وأن تلقى الهزيمة المتجددة حياة مستمرة!
إن الصراع العربي الإسرائيلي قائم على واقعتين تاريخيتين: هزيمة 1948، التي أفضت إلى انتصار المشروع الصهيوني في فلسطين والتي أعطاها العرب، صفة: النكبة، وهزيمة 1967، التي أعطاها العرب صفة “النكسة”، والتي استقرت في مكانها، حتى أصبحت جزءًا من الواقع العربي، التي يعترف البعض بها بمرارة الرافض المحتج، ويرفضها البعض الآخر مستجيرًا بصناعة كلامية لا تغيّر من الهزيمة شيئًا، فهل كانت تلك الهزيمة توازي هزيمة عنترة المشرفة أم أنها انطوت على خيبات وخيبات، وهو ما لم ينطوِ على المقاومة في فلسطين التي استقرأت التاريخ، وأعدّت عدّتها لتغيير واقع الهزيمة؛ لنصر مأمول بإذن الله، فهل نجحت في ذلك؟
تكمن القوة الحقيقية للمقاومة في قدرتها على تجنيد أجيال جديدة من المقاتلين المستعدين للشهادة في سبيل قضيتهم، في سبيل الأرض والوطن، فضلا عن الحاضنة الشعبية التي منحتهم التأييد المجتمعي اللافت والذي مكّن الحركة من الاستمرارية والتجدد بتجديد صفوفها واكتساب الموارد التي مازالت غامضة المصادر إلى حد كبير حتى الآن.
إن هذا الاستعداد الشعبي وانخراط الشباب في صفوف المقاومة لم تهيئه حماس بقدر ما هيّأته إسرائيل بسبب القوة المفرطة التي استخدمتها وما زالت بحق شعب أعزل يباد كل يوم على مرأى العالم، وهذا ما مكّن أيدولوجيا المقاومة التي اعتمدتها الحركة، كما عزّز ثقافة التضحية بالنفس، التي بدورها جلبت المزيد من المؤيدين والسالكين الطريق ذاته. وفي كل مرة يتوقع العدو تراجع حماس نجدها تزداد قوة واستعصاء على قيد المحتل، فالحرب بين إسرائيل وحماس تحولت إلى حرب عصابات، حيث لم تدرك إسرائيل قوة حماس الحقيقية، وأن المجازر والإبادة لم تضعف من قوة حماس وعزيمتها إنّما زادتها قوة وتصميمًا.
وعلى الصعيد الآخر وبالنظر إلى الأهداف التي أعلنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في السابع من أكتوبر، والمتمثلة في “سحق حركة حماس وإنهاء وجودها وتدمير قدراتها العسكرية”، يبدو فشل إسرائيل جليًّا، وهذا ما يرفض نتنياهو الاعتراف به، فلا هزيمة مشرفة له ولا نصر كذلك.
واستناد المقاومة إلى المظالم التي وقعت على شعبنا من اضطهاد طويل للشعب الفلسطيني وسلوك المستوطنين وتوسعهم وطرد الفلسطينيين من أراضيهم وديارهم، والحصار المفروض على الفلسطينيين لعقود طويلة، وسياسات الفصل العنصري وغير ذلك من مظالم، جعل الهزيمة التي كانت نهج الدول العربية، وحاولت إخضاع شعوبها لها بتزيين مفهوم السلامة لها، والذي وازى مفهوم الخزي والعار، تلك الأيدولوجيا وتلك المفاهيم يبدو أنها سقطت من قاموس المقاومة تمامًا، بل وأفشلت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية؛ فحماس لم تهزم وليست على وشك الهزيمة، وقضيتها أصبحت أكثر شعبية وجاذبية، وسوف تستمر الحرب وأهوالها ضمن هذا المنظور حتى يحدث الله أمرًا كان مفعولا.