سياسة
تعيش جمهورية نيجيريا الفدرالية تحت وطأة أزمة اقتصادية واجتماعية معقدة، تجلت في سلسلة من الاحتجاجات واسعة النطاق. ففي الأول من أغسطس/آب، انطلق آلاف النيجيريين في سلسلة مظاهرات عمت مختلف المدن في أنحاء البلاد، احتجاجًا على التضخم المتسارع وارتفاع تكاليف المعيشة الذي يُنظر إليه على أن الحكومة هي المسؤولة الأولى عنه. الاحتجاجات، المُقرر استمرارها لمدة عشرة أيام، حملت عنوان “End the bad governance”، أو “لنُنْه الإدارة السيئة للبلاد”. ووفقاً لما ذكرته الصحافة، استشهد 17 متظاهرًا بنيران الشرطة خلال هذه الاحتجاجات.
أسباب الاحتجاجات
تأتي الاحتجاجات في نيجيريا، التي تصاعدت مؤخرًا، كنتيجة مباشرة لتفاقم الأزمة الاقتصادية. يبلغ معدل التضخم السنوي حاليًا 34.19%، الأعلى منذ ثلاثة عقود، مع تأثير ملحوظ على أسعار المواد الغذائية، حيث ارتفعت أسعار البطاطا في لاغوس، العاصمة التجارية، بنحو أربعة أضعاف مقارنة بالعام الماضي. هذا التضخم الحاد أدي إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، مما يجعل الحياة اليومية تحديًا لا يُطاق.
وكما صرح به أحد المتظاهرين وهو أوجا أولاجوكون، البالغ من العمر 36 عامًا، قائلاً: “نحتج لأن معدل التضخم بات يؤثر علينا بشكل عميق، إلى درجة أننا لم نعد قادرين على تحمل تكاليف الأمور البسيطة في حياتنا اليومية كالغذاء والماء والملابس والرعاية الطبية”.
محفز آخر للاحتجاجات هي التدابير الحكومية التي يُنظر إليها على أنها غير كافية أو مضللة. على سبيل المثال، الإعلان عن توزيع 20 شاحنة من الأرز لكل ولاية من ولايات نيجيريا الـ36 لمواجهة الجوع، والذي قوبل بالرفض والاستهجان من قبل المنظمين للاحتجاجات، الذين يرون أنها محاولة لخداع الشعب وليست حلاً جذريًا للمشكلات الاقتصادية. إضافة إلى الاستياء من عدم خفض تكاليف الحكم، والتي تتضمن إنفاق مبالغ كبيرة مثل 100 مليون دولار لشراء طائرة رئاسية جديدة وأكثر من 21 مليار نيرة لإقامة جديدة لنائب الرئيس، يعكس مدى الفجوة بين الطبقة الحاكمة والمواطنين العاديين الذين يعانون من تدهور الأوضاع المعيشية.
تأثير الاحتجاجات وتداعياتها
أدت الاحتجاجات أدت إلى شلل في عدة جوانب من الحياة اليومية بنيجيريا. كانت الاحتجاجات سلمية في ولايات مثل لاغوس وأبوجا، لكنها اتخذت منحى عنيفًا في ولايات شمالية مثل بورنو وكادونا وكانو. هذه الولايات، التي تعاني بالفعل من تحديات اقتصادية وأمنية مستمرة، شهدت تفاقمًا في الاضطرابات الأمنية أيضًا، ما أثار تساؤلات حول فعالية الإدارة الحكومية وشعبية الرئيس بولا تينوبو في هذه المناطق.
استجابات الحكومة
في مواجهة الاحتجاجات، أعلن الرئيس تينوبو عن مجموعة من الإجراءات لمعالجة المخاوف الشعبية. وفي خطابه الوطني، للأمة، دعا الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو المواطنين الذين تظاهروا للمطالبة بإنهاء الحكم السيء إلى “تعليق الاحتجاجات وفتح باب الحوار”، مُعربًا عن تعازيه لأسر وأحباء الضحايا الذين فقدوا حياتهم خلال الاحتجاجات. وأكد تينوبو على أن التدمير الذي لحق بالممتلكات العامة والخاصة سيؤدي إلى تأخر النمو، إذ سيتطلب الأمر إعادة تخصيص الموارد النادرة للترميم والإصلاح. واستخدم المنصة للتأكيد على بعض مبادرات حكومته التي تهدف إلى تلبية مطالب النيجيريين، بما في ذلك تطبيق الحد الأدنى الجديد للأجور، الذي تم رفعه من 30 ألف نيرة (ما يعادل 18 دولارًا) إلى 70 ألف نيرة (ما يعادل 43 دولارًا)، وتنفيذ برنامج للقروض الطلابية، وتسوية التزامات النقد الأجنبي بقيمة تقريبية 5 مليارات دولار.
علاوة على ذلك، ألقى تينوبو الضوء على الإنجازات الاقتصادية للحكومة الفيدرالية، وكيف تمكنت الحكومة من خفض النفقات العامة من 97% إلى 68% خلال الثلاثة عشر شهرًا الماضية، مما أدى إلى زيادة المخصصات المالية للحكومات الولائية والمحلية. تناول تينوبو أيضًا الاستثمارات في البنية التحتية، مثل مشروع طريق لاغوس-كالابار الساحلي السريع وطريق سوكوتو-باداغري، مؤكدًا على دورها في تعزيز النمو الاقتصادي عبر 16 ولاية وخلق الآلاف من فرص العمل.
في قطاع التعليم، ذكر تينوبو أنه تم تجهيز 45.6 مليار نيرة للقروض الطلابية، وأنشأت الحكومة مؤسسة للائتمان الاستهلاكي بقيمة 200 مليار نيرة لدعم شراء السلع الأساسية، مما يُظهر جهود الحكومة لاستخدام الموارد المتاحة بفاعلية.
مع الإشارة إلى أنه فور تنصيبه في الرئاسة عام 2023، أعلن الرئيس تينوبو إنهاء الدعم الحكومي للوقود وبعض السلع، بقيمة تقدر بـ 5.07 مليار دولار. هذه الإجراءات، بالإضافة إلى تحديات الأمن المتزايدة، ساهمت في زيادة أسعار المواد الغذائية، في سياق يعيش فيه 63% من السكان تحت خط الفقر المتعدد الأبعاد. كما أن معدل البطالة، الذي بلغ 33.3% في 2020، من المتوقع أن يرتفع إلى 40.6% مع خواتيم عام 2024 وفقاً لتقديرات شركة KPMG الاستشارية.
وإلغاء دعم البنزين، الذي كان يشكل عبئاً على المالية العامة، كان يُنظر إليه كخطوة نحو تحرير الموارد لتعزيز النمو الاقتصادي والتعافي. ومع ذلك، نتج عنه زيادة 200% في سعر البنزين على مستوى البيع بالتجزئة وارتفاع في أسعار السلع الأساسية، مما أدى، وفقًا للبنك الدولي، إلى دفع سبعة ملايين نيجيري آخرين نحو الفقر. ويعزو الخبراء هذا الإجراء إلى الظروف المتدهورة التي أدت إلى المظاهرات الواسعة في البلاد.
تحديات وفرص
التحدي الأكبر أمام حكومة تينوبو يكمن في استعادة الثقة في الإدارة الحكومية، خاصةً في مناطق الشمال حيث تناقصت شعبيته بشكل ملحوظ. في الانتخابات الأخيرة، استخدم تينوبو استراتيجية ذكية تمثلت في الاستعانة بنائب من الشمال، وهي منطقة تضم نسبة كبيرة من السكان المسلمين وتمثل جزءًا حاسمًا من القاعدة الانتخابية في نيجيريا. هذه الخطوة كانت تهدف إلى تعزيز دعم المجتمع المسلم لتينوبو، الذي هو نفسه مسلم من الجنوب، وذلك بتقديم نفسه كمرشح يمثل الوحدة الوطنية عبر الخطوط العرقية والدينية. بالفعل، نجحت هذه الاستراتيجية في جذب أصوات الناخبين في الشمال، مما أسهم في فوزه بالرئاسة. فقدان تينوبو لشعبيته في الشمال يمكن أن يكون له تأثيرات ملموسة على فرصه في الفوز بفترة ولاية ثانية. الشمال لا يُعتبر فقط معقلًا سياسيًا بسبب عدد سكانه الكبير، ولكن أيضًا بسبب تأثيره القوي في السياسة النيجيرية. الخسارة في الشمال تعني فقدان تينوبو لقاعدة انتخابية حيوية كانت ركيزة في فوزه السابق. الفرصة الحقيقية تكمن في إمكانية إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية شاملة تتناول جذور المشكلات الاقتصادية وتعزز الشفافية والمساءلة.
غني عن البيان أن نيجيريا تشتهر بالفساد. ففي عام 2024، حققت نيجيريا درجة 12.2 من أصل 100 على مؤشر مدركات الفساد، مما يصنفها بين الدول ذات مستويات الفساد العالية، بالمقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 48.4 وتحتل المرتبة 154 من أصل 180 دولة، مما يشير إلى تحديات كبيرة في الحوكمة تؤثر سلبًا على الانتخابات، النظام القضائي، والعمليات الحكومية. أمنيًا، تحتل المرتبة الثامنة في مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، مع استمرار التهديدات من جماعات مثل بوكو حرام والدولة الإسلامية في غرب أفريقيا، ما يعقد الوضع الأمني الوطني بشكل كبير. مما يدفع الشعب للاحتجاج والمطالبة بتحسينات جوهرية في الإدارة الوطنية.
تداخل الاحتجاجات مع الأزمات الإقليمية
تسطع نيجيريا بتعداد يصل إلى حوالي 220 مليون نسمة، بوصفها القطب الاقتصادي الأكبر في غرب أفريقيا، مساهمةً بنسبة 75% من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس)، وكعضو نشط في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل سياسات الطاقة العالمية، مما يعكس قوتها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وأية اضطرابات فيها تؤثر تلقائيًا على الوضع الإقليمي.
لذا تترك الاحتجاجات الراهنة أثرًا عميقًا لأسباب عدة، الأول يعود إلى رد فعل السلطات السياسية التي شعرت بالذعر عندما اتخذت الاحتجاجات منحى عنيفًا، خشية أن تتطور المطالبات من مجرد تحسين الأوضاع إلى الدعوة لإسقاط الحكومة، مما يعيد للأذهان سيناريوهات التغييرات غير الدستورية التي شهدتها دول الساحل مثل النيجر المجاورة لها. يظهر هذا القلق في تصريح الرئيس النيجيري بولا تينوبو الذي حذر من أنّ “التحديات التي نواجهها اليوم تتطلب منا جميعًا العمل معًا. لا يمكننا السماح لأعداء الديمقراطية باستغلال هذه اللحظة لترويج أجندة غير دستورية تعيدنا إلى الوراء”. ونظرًا لاستمرار وجود خطر الانقلابات العسكرية في الوعي السياسي في نيجيريا، يتعامل السياسيون بجدية مع أي تهديدات قد تؤثر على النظام المدني، مع الأخذ في الاعتبار العوامل الإقليمية التي تعزز هذا الانطباع.
ومع ذلك، أميل إلى الاعتقاد بأن نيجيريا لا تواجه حاليًا خطر انقلاب عسكري في ظل الاحتجاجات الجارية؛ إذ لم يصل التوتر السياسي والاقتصادي إلى المستوى الذي يبرر تحرك الجيش نحو السيطرة، ولم تتفاقم الأوضاع إلى درجة تستدعي من الرئيس تينوبو إشارة مباشرة إلى هذا الاحتمال. من المحتمل أن يكون تينوبو قد أراد فقط إصدار تحذير أو استخدام التخويف كاستراتيجية، مع تقديره الكامل للعواقب الحقيقية لمثل هذه التصريحات لدولة مثل نيجيريا التي لا تود العودة إلى حقبة الانقلابات.
إضافيًا، كشفت الاحتجاجات عن احتمال الاستقطاب الدولي، حيث عبر بعض المتظاهرين عن استيائهم من حكومتهم من خلال رفع الأعلام الروسية وأعلام دول أخرى، مما يذكّر بالاحتجاجات التي حدثت في منطقة الساحل، وآلت إلى تحالفات بديلة مع روسيا خاصةً في مجال التعاون في مكافحة الإرهاب، والذي يُنظر إليه لدى بعض شعوب غرب أفريقيا على أن الغرب يُغذّيه.
وهنا، تبرز نظرية تحول القوة في العلوم السياسية كأداة تحليلية مهمة في فهم هذه الاضطرابات، حيث توضح النظرية أنه عندما يكون النظام الدولي والإقليمي على شفا تحول، فإن الدول التي ترتضي بالوضع القائم وترغب في الحفاظ عليه، مثل نيجيريا الموالية للغرب والراضية بالهيمنة الأمريكية، ستقاوم نزوات شعوبها وهذا ما يفسر احتجاز قرابة 700 متظاهر أغلبهم ممن أُشير بأنهم رفعوا العلم الروسي.
ومن ناحية أخرى، تسعى الدول المستاءة من الوضع الراهن – وفق نظرية تحول القوة – والتي لا تمتلك القدرة على التغيير بمفردها، إلى اغتنام فرصة ظهور قوى دولية صاعدة تهدد بتغيير النظام القائم، كالصين وروسيا. هذا التحليل يُفسر رفع أعلام روسية خلال الاحتجاجات في نيجيريا، مما يحمل دلالة قوية للنظام النيجيري الذي لا يرغب في تغيير تحالفاته. وتعامل الحكومة مع هذه الظاهرة قد يكون حاسمًا وقد يؤدي إلى تعقيد الوضع الإقليمي بشكل أكبر، ما يحول دون مطالب المتظاهرين الأصلية ويعطي الاحتجاجات بُعدًا إقليميًا ودوليًا إضافيًا؛ ويجعل الوضع أكثر تعقيدًا وإثارة للنقاش.
ختامًا، من المؤكد أن نيجيريا على مفترق طرق حيث يمكن أن تؤدي عدم الاستجابة الفعّالة والشاملة لمطالب المحتجين إلى تعميق حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ومن الضروري أن تتبنى الحكومة نهجًا شموليًا يضمن توزيع المنافع بشكل عادل، عبر الحوار البنّاء والإصلاحات العميقة، تُمكّن البلاد من التغلب على الأزمة، وتجنب البلاد حالات مماثلة حدثت في منطقة الساحل.