تأملات

يا إسماعيل.. ألن ينزل الكبش من السماء الليلة؟

أغسطس 1, 2024

يا إسماعيل.. ألن ينزل الكبش من السماء الليلة؟

أي الإسماعيلين أرثي؟ وبأي الوجهين البشوشين أبدأ وأنهي؟ ولأي الفقيدين أذرف دموعي أكثر؟ وأيهما صاحب الثأر المتوهج في قلبي؟ تلك الدموع المسكوبة من العينين لأيهما تذهب؟ ألكل منهما عين تبكيه أم تبكي العينان كلا منهما ساعة وساعة؟ ثم ذلك الوجع المتمكن من صدري، المطبق على رئتي، الواقف في حلقي كأني ابتلعت صخرةً للتو، أهو مقسومٌ على اثنين في يوم واحد أم أنني وحدي استحلتُ يعقوبين يبكيان يوسفيهما اللذين لن يعودا إلى الأبد؟ أبكي الرجل الذي شعرت في وجهه بأنه أبي الذي أفتقد لقاءه، أم الصديق الذي عرفته يسيرًا من قرب دون لقاء لكنني لم أشعر في أي مرة سوى بأنه أخي الأصغر رغم أنني لا أكبره؟

 

أأرثيهما أم أحمل ثأرهما أم أفعل الاثنتين معا؟ لا أحب المباكي ولا المراثي ولا كربلائيات قومي دون حركة، ولكن إلّم يغسّل مثليهما بالدموع فمن؟ هنية الأب الذي لا تكاد تراه في صورة حتى تشعر كأنك سكنت في قسمات وجهه، ورأيت نفسك صغيرًا في كنفه، وشممت من بعيد عطره الأبويّ المنتشر والفريد في آن واحد، ووجدت قلبك خفاقا يشتاق إلى جلسة معه، تسقيه فيها الشاي من يدك، وتسمع صولاته وجولاته ونكاته التي لا تنتهي، ليست كلها مضحكة، لكنك لا تستطيع التوقف عن القهقهة ولو دقيقة، ذلك الأب الأديب، التقي، الورع، المجتهد، الذي يخرج من أول اليوم ولا يعود إلا قرب آخره، يحمل لك ثمرا من صبر ولا يسلّم عليك قبل أن ينزع من يده آثار الشوك، وهو ليس راعيًا بيتك وحده، وإنما يشعر بالالتزام تجاه مليون بيت، يجلب له حق العودة، والنصر، والكرامة!

 

إسماعيل الكبير، الذي عرفناه كجد حنون لصغارنا، يحمل لهم في جيبه الحلوى، كأن به مخزنًا غامضا لا ينضب أبدًا، يحضن البراعم بين راحتيه وصدره، يمكنهم من لمس لحيته الوقورة، يقبلون يديه ويقبل رؤوسهم جميعا، ويسمع حكاية كل منهم كأنه جده وحده، وهو في الحقيقة ذلك الجد لأمة كاملة من الصغار التائهين، والأب الوجهة والواجهة لأمة من الشبان المتحيرين، ثم ذلك الإنسان النبيل الكريم المناضل، الذي لم يحنِ لظالم جبهته، ولم يلوِ لطاغية عنقه، ولم يروِ الحكاية من لسان أديب، وإنما من فعل مقاوم.

 

كان ذلك الإسماعيل في طريقه إلى الجنة، والله حسيبه، بينما كان إسماعيل الأصغر يسير تحت السحابة التي تحمله، في الأرض والحارة، ينقل الصورة الحزينة، ويتحدث بحنجرة يملؤها الغبار والشجن، وتنبعث منها رائحة البحر القريبة من مخيم الشاطئ، يحدثنا عن حياة ذلك الرجل الجليل حتى استشهاده، من فوق ركام المكان الذي وُلد به ونشأ في رحابه، كأن إسماعيل كلما ذكر “إسماعيل” كان ينعى نفسه، كان يتحدث عن آخر في المرآة، ولا يدري أن المقصود هو!

 

لا أزعم أن الغول كان صاحبي، ذلك شرف أكبر مني، وإنما صديق عرفته قبل ثلاث سنوات عبر الأثير، فنشأت علاقة أخوة لطيفة ودودة، تحول بينها الكثير من الحدود المتراكمة المركّبة، لكن جمعنا سيف القدس وطوفان الأقصى، وعشنا عشرات الساعات معًا صوتًا وصورة، حتى حفظت ملامحه كأنه أخي الذي يشاركني البيت والغرفة، بخفة دم لاذعة، ونقاء نادر، وصدق يذيع من صدره وعينيه.

 

كلما رأيته واقفًا شعرت تجاه بعاطفة الأخ الأكبر، أريد أن أشد على يده وأربت على كتفه وأقبل رأسه وأوصيه بالاحتماء جيدا، لا أعلم أين وكيف ومتى، لكنني أعرف أنني لا بد أن أقول هذه الجملة في هكذا موقف كل يوم ولو كانت عبثية تماما، أريد أن أمد يدي بمنديل أمسح به عرقه، أقبل رأسه مجددا وأوصيه باتباع السلامة، لا أخبره بأنني أخاف عليه لكنني أموت خوفا عليه، كأخٍ كبير يرى الموت متربصًا بأخيه الأصغر، لكنه يخشى أن يتجاهله وقد كان قادرًا على منعه، ويخشى أن يذكره فيقع بحسب ظنه، فيسقط في يديه بين مخافتين، وإسماعيل واقف لا يعنيه أي من ذلك، يتحسن يوما تلو يوم، تصقل الحرب مهنته، وتثقل لغته وإجادته، فأراه يكبر أمام عيني حرفيا، عبر شاشة نصفها أحمر عاجل، ونصفها ذلك الولد الجسور الذي لا يبدو أنه يكترث بأي من ذلك على الإطلاق.

 

أقف أمام الإسماعيلين وقد انصهرا كإسماعيل واحد، له عيون غائرة، وبسمة متئدة، وتقويم فوق ثناياه يكمل ملامح فكاهته، ولحية وشعرا يغزوهما الشيب ساعة والشباب ساعة، بجسم أكثر امتلاءًا من ذلك المنهك بالجوع والعطش، محنيةً رقبته على صخرة، ويد إبراهيم تحد السكين لتقدم تلك الروح قربانا لأمر الله، والجميع يتفرجون ويحفظون القصة، ينتظرون اللحظة النهائية التي حفظوها عن ظهر غيب، يطمئنون أن لا شيء أكبر سيحدث، لكن السكين يحزّ في الرقبة أكثر، الجميع مندهش من مجرى القصة، لا يحاول أحد منع أي شيء، السكين تغور في الرقبة أكثر، والدم يرسم خطا ملتويا بالتدريج، وما زال الجميع يتفرج، يفتح السورة مجددا، يقرأ الآيات “وتَلَّه للجبين”، ينظرون للأعلى ولا شيء سوى السكين يواصل ما بدأه، يمسك القوم المصحف بالمقلوب، لا يستطيعون قراءة شيء هذه المرة، حتى تصل السكين نهاية الحجر، ويسقط الرأس الذبيح، وتصعد الأرواح إلى السماء، بينما يواصل الكباش سؤالهم: ألن ينزل الكبش من السماء الآن؟ حتى يخبرهم الهاتف: لقد ذُبح إسماعيل ونجوتم! والحقُّ أن الذي نجا هو إسماعيل وحده، بينما هلك المتفرجون، إلا من سار على طريق الأنبياء.

 

شارك

مقالات ذات صلة