سياسة
في السنوات الأخيرة، تصاعد الحديث حول ما يُعرف بـ “الاستيلاء على الأراضي” الأفريقية، وقد كانت البيانات المتعلقة بهذه الظاهرة شحيحة حتى أطلق تحالف دولي يضم منظمات غير حكومية ومجموعات بحثية أضخم قاعدة بيانات حول الصفقات التي تمت منذ العام 2000. تكشف هذه البيانات عن حجم الاستثمارات وأطرافها ودوافعها بتفاصيل دقيقة. وسنتناول في هذا الجزء الثاني من “سلسلة النفوذ الإماراتي عبر الاستثمار”، طرق استيلاء الإمارات على الأراضي الأفريقية في أبعادٍ ثلاثة.
بدايةً ساهمتْ استراتيجية دعم السيادة الغذائية للإمارات بتملك الأراضي الأفريقية دون ضجيج، حيث تعتمد على الواردات لتلبية 85% من احتياجاتها الغذائية، وبذا أضحتْ من بين أكبر المشترين للأراضي الزراعية في أفريقيا. وبحسب البيانات الراهنة، تمتلك أبو ظبي أراضي زراعية مهمة في أكثر من عشر دولٍ أفريقية، مثل إثيوبيا، ليبيريا، نيجيريا، ناميبيا، تنزانيا، المغرب، غانا والسودان وقدرت مساحتها بحوالي 400 ألف هكتار.
وكانت الأزمة الغذائية خلال الفترة 2008-2010، -حيث شهدت أسعار القمح والذرة والأرز ارتفاعات هائلة-، من العوامل الرئيسية التي دفعت الإمارات للتوجه نحو شراء الأراضي وموارد المياه في أفريقيا، ابتداءً بالجوار القريب في القرن الأفريقي، كإثيوبيا، السودان والصومال.
وفقًا لتقرير صادر عن الجارديان البريطانية، تُعد الإمارات العربية المتحدة من بين العشرة الأوائل الذين استحوذوا على أراضٍ في أفريقيا، حيث بلغت مساحة الأراضي التي اشترتها 16,800 كيلومتر مربع في السودان وحدها. فالسودان، بموارده الطبيعية الهائلة التي تشمل 175 مليون فدان صالحة للزراعة و118 مليون فدان من المراعي الطبيعية، بالإضافة إلى وفرة الثروة الحيوانية التي تُقدر بـ102 مليون رأس، كان خيارًا استراتيجيًا للإمارات لتحقيق أمنها الغذائي.
ففي سياق تعزيز هذا الأمن الغذائي العربي، الذي أصدر الرئيس السوداني السابق، عمر البشير مرسومًا جمهوريًا خلال فترة حكمه خصص 2.4 مليون فدان في ولاية نهر النيل لمشروع زراعي ضخم “مشروع وادي الهواد الزراعي”. يُعتبر هذا المشروع أكبر مشروع زراعي تحت إدارة واحدة في القارة، يمتد من السهول الشرقية لولاية البطانة حتى ولاية نهر النيل. أثارت هذه المبادرات، التي تم الإعلان عنها خلال القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية الثالثة في الرياض عام 2013، وعرض السودان فرصًا استثمارية تصل قيمتها إلى 59 مليار دولار في عام 2015، آمالاً كبيرة في أن يصبح السودان سلة غذاء العالم العربي.
في إطار هذا المشروع الذي أبدت شركة الظاهرة الزراعية القابضة، وهي شركة إماراتية رائدة في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني، عام 2015 رغبتها في استثمار مبلغ ضخم يصل إلى 10 مليار دولار في المشروع. وفي عام 2022 حسمت السلطات السودانية الجديدة -بقيادة مجلس السيادة الانتقالي وعبد الفتاح البرهان- الجدل لصالح الحكومة الإماراتية عقب تنازع دول خليجية على المشروع.
بالتزامن مع ذلك، وفي أعقاب أزمة كوفيد19، عززت الإمارات أيضًا مساعيها لتأمين الأمن الغذائي، من خلال إبرام 14 صفقة استحواذ على الأراضي، وتتركز معظم هذه الصفقات في القارة الأفريقية عبر شركة الظاهرة الزراعية وغيرها. ذلك بعد أن كشفت بيانات عام 2022 عن عجز تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي بلغ 6.7 مليار دولار في مجال اللحوم، و3.9 مليار دولار في منتجات الألبان والبيض، بالإضافة إلى عجز في مجالات الفاكهة والمكسرات والمحاصيل الزيتية. ولتفادي هذا العجز مستقبلاً تستولي الإمارات على الأراضي الأفريقية بنهمٍ لاقى انتقادات المجتمعات المدنية الأفريقية.
في البعد الثاني من سياسات الاستيلاء على الأراضي، نُذكّر أن استحواذ الإمارات على الأراضي الأفريقية ليس فقط بغرض الأمن الغذائي، حيث يبرز أيضًا نهج جديد نحو استغلال ائتمانات الكربون الأفريقية. الإمارات مدعومة بمواردها النفطية الضخمة، تشتري أيضًا حقوق استخدام الأراضي في عدة دول أفريقية بغرض التجارة في أرصدة الكربون. فخلال العام 2022، تم تحديد وشراء أراضٍ في أنغولا، زيمبابوي، كينيا، زامبيا، وتنزانيا تبلغ مساحتها الإجمالية قرابة مساحة المملكة المتحدة.
وفي عام 2023، أقدم الشيخ أحمد بن دلموك آل مكتوم، أحد أبرز أعضاء الأسرة الحاكمة في دبي والزعيم الثاني للإمارة، على خطوة غير مسبوقة بتوقيع مذكرة تفاهم مع ليبيريا. منحت هذه الاتفاقية شركته ” بلو كاربون” Blue Carbon LLC الحقوق الحصرية لاستغلال مليون هكتار من الغابات لمدة 30 عامًا، وهو ما يمثل 10% من إجمالي مساحة هذا البلد الواقع في غرب إفريقيا. وقد عقدت الشركة نفسها اتفاقيات مشابهة مع دول أفريقية أخرى، شملت الصفقات – بعد عشرة بالمائة من مساحة ليبيريا – خمسة بالمائة من مساحة زيمبابوي، بالإضافة إلى نسب مئوية مُماثلة من مساحات كينيا، زامبيا، وتنزانيا، مع وعود بتحويل هذه الأراضي إلى مصادر لأرصدة الكربون، ثم تقوم شركة بلو كاربون، لاحقًا ببيع أرصدة الكربون المستخرجة من الغابات المحمية على هذه الأراضي لكيانات أخرى. وفي هذا الإطار، تعهدت الإمارات بإنفاق 450 مليون دولار لشراء اعتمادات الكربون من أفريقيا بحلول عام 2030، مما يؤكد عزمها على ترسيخ مكانتها كمشتري رئيسي لائتمانات الكربون الأفريقية.
هذا الانخراط الإماراتي في شراء حقوق الأراضي تحت قناع التعويضات البيئية، فُسّر أيضًا بأنها استيلاء جديد على موارد القارة الأفريقية، حيث الاستحواذات الضخمة تعتبر خطوة من استراتيجية أوسع تخفي النوايا الحقيقية وراء هذه الاستثمارات، وهي أنه رغم استثمارات الإمارات الضخمة في قطاع النفط والغاز، تُوظف الموارد الأفريقية من الغابات لتحسين الصورة العالمية للإمارات كدولة تسعى للحد من التلوث، في محاولة لتعزيز صورتها العالمية كبلد مسؤول بيئيًا. وهي خطوة وصفتها بعض المنظمات غير الحكومية بأنها نوع من “غسيلٍ أخضرٍ” و”أشكال جديدة من الاستعمار”. وتُظهر هذه الصفقات التجارية تحديات أخرى، بما في ذلك التأثيرات المحتملة على المجتمعات المحلية والحقوق الاجتماعية ممن يسترزقون من الغابات، الأمر الذي استدعى مزيدًا من الفحص والنقاش حول الأبعاد الأخلاقية لمثل هذه الصفقات.
ويأتي الصيد في البعد الثالث لاستحواذ الإمارات على الأراضي الأفريقية، رغبةً من أمرائها ورجال الأعمال في الصيد. ففي الأرجاء البعيدة من شمال تنزانيا مثلاً، تهبط طائرات بوينج 747 على مدارج خاصة، وتجوب الشاحنات التي تحمل لوحات أرقام الإمارات العربية المتحدة السهول الواسعة، وبحسب بعض المواطنين التنزانيين يتلقى كل حامل للهاتف المحمول رسالة ترحيب غير متوقعة تقول: “عزيزي الضيف، مرحبًا بك في الإمارات العربية المتحدة”، حيث يمكن للزائر أن يشعر وكأنه في دبي بدلاً من تنزانيا.
فمنذ قرون، كانت سهول أروشا، التي تعتبر جزءاً من النسيج التقليدي لشعب الماساي، تعج بحياة الرعاة الرحل. اليوم، هذه الأرض، وبالأخص في منطقة لوليوندو المجاورة لمنتزه سيرينجيتي الوطني، تتخذ ملامح جديدة؛ فقد تم تأجيرها لشركة الصيد الإماراتية “أورتيلو للأعمال” (OBC). ومنذ حينها، تستضيف الشركة زبائن أثرياء يقصدون المنطقة للصيد الرياضي للأسود والفهود، وهو ما أثار غضب الماساي الذين وجدوا أنفسهم محرومين من الوصول إلى المراعي التقليدية.
ولاحقًا، عملت حكومة تنزانيا على توسيع المشروع عبر خطة إنشاء ممر للحياة البرية بمساحة 1500 كيلومتر مربع، مخصصًا حصريًا لشركة “أورتيلو”. وهي الخطة التي أدت إلى تهجير قرابة 30,000 شخص وأثّرتْ بشكل كبير على العديد من السكان الذين يعتمدون على تربية الماشية خلال موسم الجفاف في تلك السهول.
ومن تداعيات جميع ما سبق -عن الاستيلاء القصري على الأراضي الأفريقية،- أنْ واجهت السودان وإثيوبيا – من بين آخرين- احتجاجات شديدة في عام 2016 والأعوام التي تلتها، حيث اندلعت مظاهراتٍ وأعمال عنف ردًا على الاستيلاء على أراضيهم وانتهاكات حقوق الإنسان، مما أثار قلقًا دوليًا بشأن الآثار السلبية لهذه الاستثمارات على المجتمعات المحلية وموارد المياه في أفريقيا. وفي تنزانيا استجابت شعوب الماساي لهذه التحديات بحملة احتجاج قوية هي الأخرى، معلنين أن هذه التغييرات ستهدم أساس سبل عيشهم، حيث يعتمد أكثر من 90٪ من سكان لوليوندو على تربية الماشية التي تتغذى على الأعشاب الموسمية في المنطقة.
وبين عامي 2022 و2024 نتيجة رفضهم لهذه الأنشطة، أجبرت السلطات شعب الماساي على مغادرة أراضيهم لتمهيد الطريق لمشاريع أخرى جديدة تخدم مصالح الإمارات، نتجت عنها انتقادات الشعوب الأفريقية، فسعوا إلى لتسليط الضوء على التحديات الاجتماعية المترتبة على السعي الإماراتي للتوسع في أفريقيا عبر استغلال أراضيها بشراهة.
المسألة المثيرة للقلق أكثر، هي أن معظم هذه الصفقات تتضمن الاستيلاء على موارد المياه أيضًا، لأن الزراعة بدون ماء مستحيلة. في أفريقيا، يعاني واحد من كل ثلاثة أشخاص من نقص المياه، ومع تفاقم تأثيرات تغير المناخ، من المتوقع أن تزداد الأوضاع سوءًا. وقد كشفت الأحداث في جنوب غرب إثيوبيا – التي فقد فيه السكان موارد مياهه- عن الأهمية الجوهرية للمياه في هذا السباق العالمي على الأراضي الأفريقية. إذ يقبع وراء هذه الصفقات صراع دولي للسيطرة على المياه أيضًا، حيث يُدرك المستثمرون أن الحصول على موارد المياه، التي غالبًا ما تُمنح بالمجان وبدون قيود، قد يمثل قيمة أكبر على المدى الطويل من الأراضي نفسها. مع الملاحظة أيضًا أن جميع صفقات الأراضي التي أبرمتها الإمارات تقريبًا مشاريع زراعية صناعية واسعة النطاق تستهلك كميات هائلة من المياه، وغالبًا ما تُقام في أحواض الأنهار الكبرى، مما يُعرض موارد المياه العذبة وسبل عيش المجتمعات المحلية لمخاطر أخرى جسيمة، وهي فقدان موارد المياه.
يُضاف إلى ذلك فقدان الأراضي الزراعية للسكان المحليين، وتأثيرات بيئية سلبية عبر الاستخدام الكثيف للموارد في المشاريع الزراعية الكبيرة، وتدهور الأراضي، ونضوب المياه الجوفية، والتلوث نتيجة استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية بشكل مفرط. ومن الآثار أيضًا الاعتمادية على الخارج، حيث يستفيد الأثرياء والنخب الحاكمة بشكل غير متناسب من الصفقات مع الشركات الإماراتية، بينما يعاني الفقراء من فقدان الأراضي والوظائف مما فاقم أيضًا من التوترات الاجتماعية والسياسية.
في الختام، منذ بواكير عام 2024 بدأت تتعالى الأصوات ضد هذه الاستحواذات في الدول التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي انتقادات شديدة، وتُوصف أفريقيًا بأنها استيلاء على الأراضي مشابه بفترات الاستعمار. فليس من العدالة أن تقوم دولة ثرية بالاستيلاء الواسع -غيرالمقيد- على الأراضي الزراعية في دولٍ فقيرة، خاصة إذا كان ذلك يعني إزاحة السكان الأصليين لتحقيق اكتفاء ذاتي، حيث يجب أن يكون ضمن حدود معقولة. أما الأشد فظاعة، فهو استيلاء رجال أعمالٍ على أراضٍ بغرض التسلية والصيد، كما هو الحال مع الصيادين الأثرياء من دبي الذين يتسببون في طرد الآلاف من الشعوب من أراضيهم التي كانوا يعتمدون عليها في رزقهم، لمجرد الترفيه عن أنفسهم. هذا النمط من التصرفات يمثل شكلاً من أشكال الامبريالية الجديدة، حيث يُحرم البسطاء من مصادر عيشهم لإرضاء رغبات الأثرياء في المتعة.