تأملات
بعد أن أتم رسالته لهذه الأمة المجيدة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها أحس بالخوف علينا حبيبي وسيدي محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، فلم يكن خوفه علينا من هلاك تام من قبل عدو خارجي، ولم يخش علينا من فناء بوباء يقضي علينا وينهينا عن بكرة أبينا، بل ولم يكن الفقر الشديد والمجاعات ذلك الهاجس الذي جعل قلبه الشريف يحن على أمته ويخاف عليها، بل فراسة من كان ينظر بنور الله كانت تخاف علينا من الرفاه وأن تنبسط علينا الدنيا وننعم بما هو فوق حاجتنا ثم ننشغل بذلك منافسةً ومجادلةً كما فعل من قبلنا ثم هلكوا فنهلك نحن كما هلكوا.
إن الخيرات التي ينعم الله بها على مجتمع من المجتمعات إن لم تتم إدارتها بشكل يحافظ على عدم تجاوز الحدود في الاستهلاك والتنعم ستكون وبالات على البشر قبل الحجر، وهنا تأتي الإدارة الرشيدة في بناء المنظومة الأخلاقية الراعية لوفرة النعم والتي تحافظ عليها من الهدر والبذخ وما حرم الله تعالى، بل تتعدى ذلك إلى أن تكون جسور نحو النفع المتعدي كإرساء مؤسسات الزكاة وتنمية الأوقاف ومراكز البحث والابتكار والتخطيط الاستراتيجي للمستقبل، فالمجتمع المرفه هو ذلك الذي يطغى على أفراده العيش في الكماليات والاستغراق في كيفية تملكها وإن كان على حساب الأولويات، وهو الذي ينتشر فيه الحسد والنظر إلى ما في جيوب الآخرين وحياتهم، والخطير هو الانتقال المجتمعي السريع نحو الجاهلية البغيضة والتي انتشرت فيها جميع علامات الرفاه المشئوم من مفاخرة بالملك، وتجارة بالبشر، وغايات نحو الكسب تكون فيها كل الوسائل مبررة، وابطال لعمل العقل والروح، وبذخ واسراف وسطو وظلم وبغي من أجل قصيدة قد تكتب في وصف النعيم الذي يعيشه والملك الذي تحت تصرفه.
إن من أساليب تركيع المجتمعات وجعلها خاضعة للتغيرات التي يطمح أهل الشر والاستبداد أن يجعلوها واقعاً مفروضاً وأمراً مسلماً به هو اغراق المجتمع بوسائل الرفاه التي تبهر العقول وتسلب الألباب، فتجدهم يوفرون كل التسهيلات من أجل الاقتراض وتوافر السيولة المالية في اليد، ثم تبدأ مغريات سهولة العيش مع التفاهات من حفلات وعروض ومواسم ترفيهية على مدار العام، بل وتكون اللغة المستخدمة مع المجتمع هي اللغة المتخمة بمفردات إشباع البطون والفروج والعيون، ويتم إحاطة جميع ما سبق بسرديات مفادها أن المجتمع يعيش ما أنعم الله به عليه من رفاه، ولا عجب أن يتم استكتاب مرتزقة الأقلام من أجل بناء النظريات وتأليف الروايات حول الواقع الجديد ذو الرفاه الزائف، وعندما يصبح المجتمع طرياً قد فقد جميع ما لديه من مقومات تحفظ له هويته وقيمه يصبح سهلاً على المستبد أن يسوق ويفرض ما يريد من مناهج تعليمية خاوية من معالم الدين وأسس الفضيلة، بل ويتم إبراز وإشهار الساقطين والمهرجين على أنهم مثقفين، وحينها لا تسأل المجتمع عن هوية أو دين.
إن الرفاه هو ذلك الفخ الذي يصطاد به السلاطين أهلم العلم والوجاهة، ولكن العلماء الربانيين يقظون بفطنتهم وفراستهم ولا يقعون بمثل هذه المكائد والمصايد، أما ضعاف النفوس والجوعى فسينبهرون من كمية المؤسسات والهيئات الشرعية التي وضعت خلفها الميزانيات والتسهيلات والرحلات والمؤتمرات وما يصاحبها من هدايا ورسميات، فيدخلون فيها ثم يجدون عنقهم قد أحيط بطوق لا يعرفون من يمسك الحبل في نهايته، فيمر هؤلاء بمراحل ترويض وتجهيز بعضهم قد يستغرق سنوات وبعضهم لا يتعدى الساعات، ولكل منهم مهمته التي ستوكل إليه، والعجيب أن الشيطان ونفسهم الأمارة بالسوء تقنعهم بأن هذا الرفاه وتلك العطايا من باب إكرام أهل العلم وتوقير العلماء ولكنهم في سكرتهم يعمهون، فيصبح في المجتمع سداً قوياً من الفتاوى والآراء الشرعية المفصلة كما يريد مالك الطوق، وبعد ذلك يجلس خلفه المستبد بعد أن أتم مهمته في هدم مؤسسة الدين في المجتمع.
إن المجتمع الذي تسيطر عليها الحياة الاستهلاكية المرفهة سيكتشف مع الوقت أنه قد أضاع فرصاً ثمينة في المشاركة بصنع القرار وتداول السلطة، فلا يلتفت إلى أنه صار مهمشاً في صياغة منظومة الحقوق والواجبات إلا بعد أن تُمس أحد جوانب حياته المرفهة، ثم يبدأ المحاولة بأن يستعيد ما سُلب منه ولكن سيكون الوقت على ذلك قد مضى عليه الكثير، بل إن من أعظم الفرص التي ستفوت هي قدرة المجتمع على أن يكون بنية تحتية إنتاجية تبدأ بالفكر والعقل ثم التنقيب عن الموارد ثم إدارتها نحو الاستدامة، فمن كان الاستهلاك وما به من ثقافة وممارسات هي المسيطرة على حياته قطعاً لن تكون له فرصة لأن يفكر بالإنتاج والوصول بمجتمعه نحو الاكتفاء الذاتي الذي يحقق له الأمن القومي، أما بالنسبة لي فإن أعظم الفرص التي ستضيع على المجتمع المرفه هو حرمانه من تعظيمه للكفاءات والنابغين والمخترعين والقدوات، فالمجتمع لم تكن له حاجة في البداية أساساً بمراكز البحث وحاضنات المبدعين والمبتكرين، بل إن القدوات التي ارتضاها أفراد المجتمع هي التي تروج لهم مفاهيم الحياة المرفهة التي يريدونها، ولكن حين تقلب الأحوال وتبدلها سيجد المجتمع أن ظهره مكشوف وعارٍ أمام كل غادر وطاعن.
إن الدين هو المقوم لحياة الشعوب والمجتمعات، فهو الوصي بتعاليمه وشرائعه على كيفية تعاملهم مع النعم ووفرتها أو مع الفقر وشح الموارد، والبناء الإيماني والسلوكي لأفراد المجتمع مهما اختلفت مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعلمية سيمهد الطريق نحو التوازن ما بين الاستهلاك وبين الإنتاج، بل إن الفرد لن يعيش ذلك الاضطراب الفكري حين يشاهد ممارسات تعاكس المبادئ من قبل علماء أو مؤثرين أو شخصيات عامة لأن المفاهيم لديه واضحة ومترسخة، فمهما استخدم الأعداء معاول الرفاه الزائف لهدم جبين المجتمع وقيمه يجب أن يواجه ذلك بعمل تأصيلي منهجي جاد يحافظ على صلابة المجتمع وقوته واستدامة عطائه ونفعه.