سياسة

تركيا والكونفدرالية الساحلية: تواصل استراتيجي لعصر جديد

يوليو 24, 2024

تركيا والكونفدرالية الساحلية: تواصل استراتيجي لعصر جديد

في السادس عشر من سبتمبر عام 2023، اتخذت النيجر، مالي، وبوركينا فاسو خطوة مهمة نحو التكامل الإقليمي بإعلانها تأسيس “تحالف دول الساحل”، ممهدةً بذلك السبيل لتشكيل كونفدرالية جديدة. تلت ذلك خطوات جوهرية حيث أعلنت هذه الدول في يناير 2024 انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وفي السادس من يوليو من نفس العام، تم الإعلان رسميًا عن إنشاء الكونفدرالية التي توحد الدول الثلاث. تُعد هذه الخطوات تحولاً كبيراً في توازنات القوة والنفوذ بالمنطقة، مما يستدعي إعادة تقييم العلاقات والتحالفات الإقليمية في غرب أفريقيا.


وفور ظهور الكونفدرالية الجديدة، زحفت تركيا سريعًا لتلعب دور الحليف الاستراتيجي الأول، مستفيدةً من فرصة ذهبية للتأثير في المنطقة بفضل موقعها الجغرافي. وثقافياً بوصفها قوة إسلامية رائدة.


وليس مصادفةً أنه بعد إعلان الكونفدرالية بعشرة أيام فقط، توجه وفد تركي رفيع المستوى إلى النيجر في 17 يوليو/تموز لبحث تعزيز العلاقات الثنائية وتوسيع آفاق التعاون. شمل الوفد عدة شخصيات بارزة مثل وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار جولر، إلى جانب وزير الطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، ورئيس الاستخبارات الوطنية إبراهيم غالن، ونائب وزير التجارة أوزغور فولكان أغار، ورئيس رئاسة الصناعات الدفاعية هالوك جورجون. هذه الزيارة، الحدث غير المسبوق في تاريخ المنطقة، حيث لم يُسجل من قبلُ اجتماعٌ بهذا العدد من الوزراء السياديين من دولة أجنبية في النيجر أو في منطقة الساحل طوال تاريخ غرب أفريقيا، ما يُمثل ملامح استراتيجية تركية متجددة مع الكونفدرالية الناشئة.


تطور النفوذ التركي في الساحل وأبعاده


تأسست العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والنيجر في عام 1967 وتُوّجتْ بإنشاء أول سفارة تركية في البلاد عام 2012، وقد حرصت تركيا منذئذٍ على توطيد علاقاتها مع النيجر، وقد تمهد هذه الزيارة الطريق لتعميق الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، بناءً على ما تم التوصل إليه خلال زيارة رئيس وزراء النيجر علي مهمن لامين زين إلى تركيا عقب الانقلاب. وغني عن البيان أن تركيا تُظهر حضورًا كبيرًا في النيجر، ليس فقط من خلال الشراكات الحكومية، ولكن أيضًا عبر مشروعات قطاعها الخاص في مجالات الطاقة، الخدمات والبناء. في المجال الصحي، يخدم مستشفى الصداقة التركية-النيجرية المنطقة منذ 2019، وقد شهد توسعات ملموسة في عام 2021. كما تدير مؤسسة “المعارف” التركية في النيجر 13 مدرسة ومهاجع، مما يعكس العمق الثقافي والتعليمي للعلاقات بين البلدين.


لفهم ديناميكيات الجيوسياسية التركية في الساحل الأفريقي، يتطلب إدراك العواقب البعيدة للانقلاب العسكري الذي وقع في تركيا عام 2016، الذي أثر بشكل جوهري على توجهات تركيا الخارجية. كانت محاولة الانقلاب الفاشلة محور تحول حاد في السياسة التركية نحو مناطق تَنْفُر من النفوذ الغربي، خاصةً الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا، الذي بدا لتركيا كداعمٍ للانقلاب الفاشل. هذا النفور جعل تركيا تلتفت إلى خصوم أوروبا في الجغرافيا السياسية، ولا سيما تلك التي تظهر نزعات تحررية من فرنسا في الساحل الأفريقي. فكلما ازدادت مسافة دولة عن الغرب، كلما زاد اهتمام أردوغان بها. ومن المثير للدهشة أن تتجه تركيا نحو دول تعادي السياسات الأوروبية الدولية، لكنها، في نفس الوقت، هي قوى لديها سجل انقلابي، إنه الجيوبوليتيك.


حيث، سعت تركيا للاستفادة من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الفرنسي من الساحل. هذا البُعد يظهر الخلاف الجيوسياسي بين فرنسا وتركيا، ويعكس كيفية استغلال تركيا لهذا الفراغ لتعزيز نفوذها. وقد أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون عن سحب القوات الفرنسية في 17 فبراير 2022، وفي بوركينا فاسو والنيجر في العام اللاحق، مما أتاح لتركيا فرصة لملء الفراغ السياسي والأمني في المنطقة.


الأفق الاقتصادي


سعت تركيا، تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، لتأمين موطئ قدم استراتيجي في الساحل، إدراكاً لأهميتها في تحقيق الأمن والتنمية الاقتصادية. فبالرغم من وجود تعاون تركي مع النيجر ومالي منذ التسعينيات، فإن الوجود التركي تعزز في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث تم افتتاح سفارات في باماكو (2010)، واغادوغو (2012)، ونيامي (2012). ولم تقتصر أنقرة على الدبلوماسية فقط. فأهداف تركيا في منطقة الساحل شملت تحسين العلاقات التجارية وتأمين مصالحها الاقتصادية. تُشكل التجارة الخارجية نحو 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي التركي، وقد ازدادت التدفقات التجارية والاستثمارات بين تركيا ودول الساحل، حيث عملت أنقرة على تعزيز صورتها كشريك تجاري موثوق، مما يتناقض بوضوح مع التوجهات الاستعمارية التي يُنظر إليها في علاقاتها مع فرنسا.


ففي الأفق الاقتصادي، كسبت الأنشطة التركية زخمًا ملحوظًا، لا سيما بعد أن سهلت الخطوط الجوية التركية الرحلات الجوية المباشرة بين إسطنبول وعواصم دول المنطقة، التواصل والتبادل التجاري. هذه الديناميكية عمقت الروابط الاقتصادية التركية في قطاعات متعددة، محورها الأساس يتركز في الصناعات حيث تبرز الشركات التركية بقوة، في البناء، تصنيع المنسوجات، والتعدين.


ليس من المستغرب إذًا أن تكون هذه الصناعات على رأس قائمة المشاريع الكبرى التي تطورها تركيا في منطقة الساحل، حيث يبرز مثال المطار الجديد في نيامي وفندق راديسون بلو الفخم، الذي شُيد بمهارة تركية بمناسبة قمة الاتحاد الأفريقي في 2019، كشاهدٍ على البصمة التركية في المنطقة. ولا تقتصر مساهمات تركيا على البناء والفندقة فحسب، بل تمتد إلى تقديم الخدمات الإنسانية، كما في مثال مستشفى غولدن لايف الكبير، الذي أُقيم على ضفاف نهر النيجر في باماكو، مالي.


ومنذ عام 2014، كثفت تركيا جهودها في بناء المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية الأخرى في النيجر، بينما ساهمت الشركات التركية أيضًا في إنشاء مستشفيات ومساكن للقوات العسكرية في مالي.


الأفق الدفاعي والأمني


في مجال الدفاع والأمن، برزت تركيا كفاعل استراتيجي، حيث شهدت السنوات الأخيرة تعزيزًا للتعاون الأمني والعسكري بين أنقرة ودول الساحل، خاصة منذ العام 2020. على الرغم من وجود اتفاقيات سابقة للتدريب وتقديم المعدات المحدودة، إلا أن العلاقات الدفاعية اتخذت منحى أكثر تسارعًا بعد تعهد تركيا بمبلغ 5 ملايين يورو للقوة المشتركة في الساحل. فكل من مالي والنيجر وقعتا اتفاقيات تعاون مع تركيا تتعلق بتقوية الصناعات الدفاعية وتدريب قوات الأمن، بالإضافة إلى أشكال أخرى من التعاون الأمني.


النيجر، على وجه الخصوص، وقعت اتفاقيات إضافية مع تركيا في العام 2018، واتفاقية تعاون أمني أخرى في العام 2020، التي لم يتم الإعلان عن تفاصيلها. بوركينا فاسو من جانبها، أقامت علاقة صناعية دفاعية مع تركيا في عام 2019، وعلى الرغم من استغراق بعض الوقت لتؤتي ثمارها، فقد ارتفعت صادرات الدفاع التركية إلى البلاد من 277 ألف دولار في عام 2020 إلى حوالي 7 ملايين دولار في عام 2021، تضمنت شراء ونشر معدات مثل طائرات بيرقدار بدون طيار.


مع أن النطاق الأمني للتعاون التركي في منطقة الساحل لا يزال أقل اتساعًا مقارنة بالدعم التركي في ليبيا والصومال، فقد تميز التعاون الأمني التركي بتقديم برامج تدريبية متنوعة وتوريد معدات للقوات الأمنية في دول الساحل. في بوركينا فاسو، شمل ذلك تدريب قوات الشرطة والدرك، وشراء الأسلحة الصغيرة والمركبات المدرعة وأنظمة المراقبة والأسلحة المضادة للطائرات. وفي مالي، تضمنت البرامج تدريب أعضاء القوات المسلحة، ومنذ عام 2018، يدرس بعض الضباط الماليين في الكلية الحربية التركية.


المساعدات والتعليم


تعمل تركيا على تأثيرها عبر المساعدات الإنسانية والجهود التعليمية، حيث دعمت مشاريع الرعاية الصحية والمياه في النيجر وبوركينا فاسو عبر جمعية “تيكا للأعمال الخيرية”، كما أنشأت أنقرة مؤسسة معارف لإدارة مؤسسات تعليمية في أفريقيا. علاوة على ذلك، تقوم تركيا بتعزيز نفوذها من خلال المنح التعليمية، حيث تمول المنح الدراسية لطلاب من دول الساحل للدراسة في تركيا، وتركز على تعليم اللغة التركية والدبلوماسية كجزء من مناهجها. هذه المبادرات لا تقتصر على نشر اللغة والثقافة التركية فحسب، بل تهدف أيضًا إلى إنشاء نُخبة من القادة الأفارقة المتعاطفين مع تركيا وسياستها الخارجية، وبهدف خلق جيل من السفراء الأفارقة المتحدثين بالتركية.


الدين كرابط سياسي


وتعكس السياسة الخارجية للرئيس أردوغان توجهًا نحو دعم الدول الأفريقية المسلمة التي تتخذ مواقف مغايرة للسياسات الغربية التقليدية في التعاطي مع الأزمات العالمية التي لم تُثمر، بحثًا عن حلول بديلة لما عجزت عنه القوى الغربية. هذه السياسة هي التي أكسبت تركيا نفوذًا بارزًا في دول مثل الصومال، التي تخلى عنها الغرب، وليبيا بعد فشل تدخل الناتو. 


إذن، ليس من قبيل الصدفة أن تسعى تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الثلاث في منطقة الساحل التي أعلنت مؤخرًا عن كونفدرالية جديدة، وتتميز بأغلبية مسلمة كبيرة، مثل النيجر حيث تبلغ نسبة المسلمين 98% وتعاني هذه الدول من فراغ جيوسياسي بعد تراجع النفوذ الغربي، وتتمتع بثروات طبيعية ضخمة من النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم، إلى جانب المعادن الثمينة والاستراتيجية، مما يجعلها شركاء استراتيجيين مثاليين لتركيا الصاعدة في مجال التكنولوجيا.


ومقابل استفادة الساحل بشكل كبير من هذه الشراكة -خاصة بعد وعود السيد هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، خلال زيارته لنيامي بالتزام تركيا بتقديم الدعم في مجالات متعددة بما في ذلك الدفاع والمخابرات، والبُنى التحتية، وكذلك مساعدة النيجر على استغلال مواردها الطبيعية بشكل مستدام وفعّال- فستحصل تركيا بالمُقابل على الموارد الطبيعية التي تحتاجها لتبقى رائدة في السباق الدولي.

ففي النيجر، وقّع السيد باركه باكو مهمان مصطفى، وزير البترول النيجري، ونظيره التركي السيد ألب أرسلان بيرقدار، مذكرة تفاهم للتعاون في مجالي النفط والغاز الطبيعي. هذه الاتفاقية تمنح تركيا فرصة لتعزيز حضورها في قطاع الطاقة بالنيجر، خاصة بعد أن قررت الحكومة النيجرية سحب حقوق التعدين من الشركة الكندية “غوفي إكس” والفرنسية “أورانو” في الشهر الماضي، مما يعزز موقف تركيا كمستورد رئيسي للموارد الطبيعية، خصوصًا اليورانيوم الضروري لدعم صناعة الطاقة النووية التي تطورها تركيا، والمرتبطة بمفاعل أكويو النووي في ضفاف البحر الأبيض المتوسط والمشاريع النووية الأخرى المقرر إنشاؤها، بحسب ما أفادت به وكالة ببلومبرغ الأمريكية إبان الزيارة التركية الأخيرة للنيجر.


في الختام، يُلاحظ أن القيمة الاستراتيجية لهذه الشراكة تتجلى في توسيع نطاق النفوذ التركي على مستوى القارة، وبشكل أكثر تحديدًا في منطقة الساحل التي تواجه استقرارًا أمنيًا واقتصاديًا متذبذبًا. واستنادًا إلى المعطيات الموضحة أعلاه، يُتوقع أن تلعب الكونفدرالية الجديدة في الساحل دورًا محوريًا لتركيا في ترسيخ مكانتها كالحليف الاستراتيجي الأول للساحل، خصوصًا في ضوء الاتفاقيات الأخيرة المتعلقة بالطاقة واليورانيوم. وهذه التطورات تتعارض مع الافتراضات السائدة بأن روسيا قد تحتل مكان فرنسا كالقوة الأساسية في استغلال الموارد الطبيعية للنيجر ودول الساحل.



شارك