آوي إلى مخدعي بعد يوم عمل طويل، أطفئ مصباحي الصغير وأتصفح آخر الأخبار عن غزة، وكأنه طقس روتيني لا تستقيم ليلتي إلا به. خبر عاجل: “رغم تصنيفها ضمن المناطق “الآمنة”، الاحتلال الإسرائيلي يقترف مجزرة في منطقة المواصي بخان يونس، وعدد القتلى يتجاوز المئة”. عاجل؟ ولم العجلة؟ ومن نستعجل ليقرأ الخبر؟ فالمقتول لن يفيده الخبر، والقاتل منشغل في جني المزيد من الجثث والأشلاء، والعالم مشارك في الجريمة. فمن يا ترى نستعجله بقراءة الخبر؟ بعد قرابة 300 يوما من العدوان، ينتابني إحساس لم أصِغ له مسمى بعد، مزيج من العجز المقيت والغضب الجامح والدهشة، والكثير من الخذلان والخيانة والتعب.
هل أبكي؟ الجواب هو لا، تأبى عيوني ذلك لأسباب لا أجهلها. أتصفح أكثر، فيعتصر قلبي أكثر وأكثر. أصادف فيديو لطفل صغير لم يذكروا اسمه، يحمل طنجرة صغيرة، يحاول الصغير أن يجد لنفسه مكانًا وسط عشرات الأطفال الذين ينتظرون دورهم لأخذ بعض من الحساء. نفد الحساء قبل أن يأخذ الصغير حصته. دون أن ينبس ببنت شفة، شاركه أحدهم بعضًا من حصته، فرح الطفل، وبات يهرول إلى الخيمة حافي القدمين، وينادي: “ماما ماما، أنا إجيت بالغذاء”!
اليوم، لا يستطيع أحد في العالم الهروب من صرخات الحرب على غزة، فهي ببساطة أسقطت تناقضات العالم، وأظهرت كيف أن القوانين الدولية ملطخة بالكثير من الدماء. إلا أن الاستعمار الإسرائيلي في أرض فلسطين يتجاوز بوحشيته كل أشكال الاستعمار الحديث، فهو لا يسعى فقط إلى تغيير الفلسطينيين واستبدال ثقافتهم بل يسعى إلى محوهم وإقصائهم تماما والتمدد إلى دول أخرى، وتعميق الفكر الصهيوني في شعوبها.
ربما أجدك تتساءل، كما فعلت أنا، هل الحياة عادلة؟ ومن ينتظر من دار بلاء أن تكون عادلة؟ الحياة ليس مطلوبًا منها أن تكون عادلة، هي ليست كذلك البتة. لكن أتدرون ما المطمئن في الأمر؟ أن هناك يومًا يجتمع فيه الخصوم، ويجازى كل ساق بما سقى. وكم هو أمر مطمئن جدًا.
لطالما حاول الفكر العلماني أن يبعدنا عن فكرة القيامة، وأتفهم موقفه صراحة، فتشبث شعب بمثل هذ الفكر يجعلهم غير قابلين للهزيمة أبدًا. فمن ذا الذي سيخاف إن ارتقى عند الله شهيدًا؟ وكيف لك أن ترهب شخصًا يؤمن بأن الخالق سينصفه؟ أترى شعبًا كهذا سيهزم؟ فكرة القيامة كانت دومًا ما ترعبني، وتخيفني، وكنت بسذاجة طفلة أتساءل: لماذا لا يدخل الجميع الجنة؟ أليس الله رحيمًا غفورًا؟ إلى أن استوعبت أن قمة الرحمة هي حين تنتزع الحقوق ويجازى كل على أفعاله، فيؤخذ ثأر ذاك الطفل الذي عض كلبهم يديه، وذاك الأب الذي حمل بين يديه أشلاء طفليه، ويعيد الابتسامة إلى محيا من ترملت ليلة عرسها، وعوض أن تُزف إلى عريسها، زفته هي إلى النعش بكل اعتزاز… الشهيد حبيب الله.. الشهيد حبيب الله!