فنون

West Side Story: ماذا يمنحنا من إدراكات؟

يوليو 20, 2024

West Side Story: ماذا يمنحنا من إدراكات؟

النجمة الواعدة “ريتشل زيغلر” قادها الطموح للمشاركة في فيلم سينمائي، وبناءً على ذلك عليها اجتياز تجربة الأداء، ومعها 30 ألف فتاة أخرى، وواحدة فقط منهن سيتم اختيارها لأداء شخصية “ماريا” في فيلم “قصة الحي الغربي”.

 

بالطبع، لم تكن “ريتشل زيغلر” تتوقع أن يتم اختيارها من بين آلاف الفتيات، ولكن حدثت المفاجاة وأصبحت هي بطلة الفيلم الرئيسية بشخصية “ماريا”، حيث أنها تملك المقوّمات الأساسية للشخصية، بكونها تهوى التمثيل وتجيد الغناء، كما أنها ذات أصول كولومبية من جهة والدتها، مما يجعلها ملائمة لأداء الشخصية.

 

إنها ممثلة موهوبة، وصوتها في غاية الروعة والرقة والنقاء والجمال، تمامًا مثل ما صرّح المؤلف الموسيقي والشاعر الغنائي المسرحي الأسطوري “ستيفن سوندهايم” بأنها تملك صوتًا كالعندليب. من المؤسف أن “ستيفن سوندهايم” توفّي قبل عرض الفيلم بأسبوعين، وهو في سن 91.

 

الجدير بالذكر أن فيلم “قصة الحي الغربي” هو أساسًا مسرحية موسيقية استعراضية تم عرضها لأول مرة في عام 1957، وهي مقتبسة من كتاب لـ “آرثر لورينتز” وأعدّها للمسرح المخرج المسرحي “جيروم روبينز”، بينما قام “ستيفن سوندهايم” بكتابة الأغاني كاملةً، ولحّنها الموسيقار الكبير “لينرد بيرنستين”، الذي يعتبر من أبرز الموسيقيين الأمريكيين، وقد قام بقيادة الأوركسترا وعزف البيانو في الكثير من العروض لعمالقة الموسيقى الكلاسيكية، كما قام بتأليف أعماله الخاصة، بالإضافة إلى عمله كأستاذ موسيقى.

 

لقد حقّقت المسرحية نجاحًا منقطع النظير، واستمرت عروضها في مختلف أنحاء أمريكا والعالم، وفازت بـ 6 جوائز توني، التي تعادل الأوسكار في المسرح، ومنها لأفضل مسرحية موسيقية، وبناءً على ذلك قرّر المخرج المسرحي “جيروم روبينز” تحويلها إلى فيلم سينمائي، وانضم إليه المخرج السينمائي “روبرت وايز”، وقام بكتابة وإعداد النص المسرحي للسينما الكاتب المبدع “إرنست ليمان”، الذي سبق له كتابة نصوص لأفلام رائعة مثل: “Sabrina” و “The King & I” و “North By Northwest”.

 

عُرِض الفيلم في السينما لأول مرة في عام 1961، وأيضًا لاقى نجاحاً مبهرًا على مستوى النقاد والجماهير، محققًا الفوز بـ 10 جوائز أوسكار، ومنها لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل ممثل مساعد “جورج شاكيريس” وأفضل ممثلة مساعدة “ريتا مورينو” وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصوير وأفضل مونتاج وأفضل تصميم مواقع وأفضل تصميم أزياء وأفضل تحرير صوت، كما ترشّح لجائزة أفضل نص سينمائي مقتبس، بالإضافة إلى فوز “جيروم روبينز” بجائزة الأوسكار الفخرية لإنجازاته المبهرة في فن تصميم الرقصات في فيلم سينمائي. لاحقًا، في عام 1965، قام المخرج المبدع “روبرت وايز” بالتعاون مجددًا مع الكاتب المبدع “إرنست ليمان” في فيلم “The Sound of Music”، محققًا الفوز بـ 5 جوائز أوسكار، ومنها لأفضل فيلم وأفضل إخراج، والذي أعتبره لغاية اليوم أعظم فيلم موسيقي في تاريح السينما.

 

أي صانع أفلام في يومنا هذا حين يجد مسرحية ناجحة نالت أهم الجوائز وتحوّلت إلى فيلم ناجح نال أهم الجوائز، من الطبيعي أن لا يفكّر في محاولة إعادة إنتاجها، فمثل هذه الخطوة تضعه في مآزق كبيرة، حيث أن تقييم النسخة الحديثة لن يكون مستقلًّا كأي فيلم عادي، بل ستتم المقارنات بينها وبين الأصل، ولذلك لم يجرؤ أحد على إعادة إنتاج أفلام عظيمة مثل “Casablanca” أو “Gone With The Wind” أو ثلاثية “The Godfather”، لأن تلك الأفلام وصلت إلى درجة الكمال في السينما.

 

“ستيفن سبيلبيرغ” وهو في سن 74 قرّر خوض تحدٍ جديد وصعب بإعادة إنتاج تحفة كلاسيكية عريقة في المسرح والسينما، وهي بالطبع “قصة الحي الغربي”، وما يزيد الأمر صعوبة هو أنه، طوال مسيرته الحافلة، لم يُقدِم أبدًا على إخراج فيلم موسيقي استعراضي، ويُذكَر أنه كان يحلم طوال حياته بإخراج فيلم موسيقي استعراضي، وقد كان في فترةٍ ما على مشارف البدء بفيلم كهذا، ولكن الأمر لم يتم، وشعر أنه فشل.

 

أصبح هذا الهاجس يراوده وهو يتقدّم في السن، ففكّر وخطّط ونفّذ، والنتيجة هي ملحمة سينمائية عظيمة تتفوق بمراحل على الفيلم الأصلي. أنا لم أكن من محبّي الفيلم الأصلي، لأنه أقرب إلى مسرحية من فيلم سينمائي، وحتى مواقع التصوير كانت تبدو وكأنها في ستوديو فعلًا، وبشكل عام شعرت بالملل، بالرغم من أنني أعشق الأفلام الموسيقية.

 

قام “سبيلبيرغ” بترميم المسرحية الأصلية والفيلم الأصلي، أو بالأحرى إعادة البناء من الصفر، ولم أتوقع أنه سيبهرني إلى هذه الدرجة، بالرغم من أنني أعتبره من أفضل المخرجين في تاريخ السينما، فكما ذكرت، أنا لست على وفاق مع الفيلم الأصلي القديم، ولكنه استطاع إخراجه برؤية فنية مذهلة، وأشيد أيضًا بجهود الكاتب المسرحي الكبير “توني كوشنر”، الذي رمّم النص إلى شاشة السينما بمنظور أعمق، والذي أتحفنا سابقًا بنصه المتميز لفيلم “Munich”، ومسرحيته المثيرة للجدل “Angels in America” التي تحوّلت إلى واحد من أنجح المسلسلات التلفزيونية القصيرة، مع كبار النجوم: “أل باتشينو” و”ميريل ستريب” و”إيما تومبسون”، التي تدور في قالب فنتازي غريب وغير مألوف حول طفرة مرض الإيدز في التسعينيّات.

 

الكاتب “آرثر لورينتز”، الذي تم اقتباس “قصة الحي العربي” من كتابه، هو أساسًا استلهم قصته من المسرحية الشهيرة “روميو وجولييت” لـ “وليام شكسبير”، ومن نصوصه الرائعة في السينما: فيلم “Anastasia” وفيلم “The Turning Point”.

 

تدور أحداث الفيلم في أحد الأحياء الغربية في نيويورك بفترة الخمسينيّات، حيث يعيش الأمريكيون البيض مع البورتوريكيين حياة مليئة بالأحقاد والمشاحنات والنزاعات، تتمثّل في عصابتين بالشوارع من المراهقين: عصابة “جتس” التي تتألف من الأمريكيين البيض، وعصابة “شاركس” التي تتألف من البورتوريكيين.

 

تأتي الحبكة الروميوجولييتية مع “توني”، العضو السابق في عصابة “جتس” والصديق المقرّب لقائد العصابة “ريف”، ويقع في حب “ماريا”، وهي فتاة بورتوريكية، وشقيقة “بيرناردو”، قائد عصابة “شاركس”، ومن هنا تتفاقم الأحداث مع الحب المحظور.

 

النجم الشاب “آنسل إلغورت” أصبح مكروهًا في هوليوود بسبب اتهامات بالتحرّش، ولا يزال يُهاجَم مع عرض الفيلم، ولكن لا أحد منهم يستطيع أن ينكر أنه فنان موهوب، ويملك كاريزما كلاسيكية تذكّرني بالفنان الكبير الراحل “مارلون براندو” في سنوات شبابه في أفلام الخمسينيّات، وبالطبع لا يمكن المقارنة بينهما، ولكنّ “آنسل إلغورت” قدّم أداءً جميلًا بشخصية “توني”، وكذلك استطاع أداء الأغاني بشكل متميز، واتّضح أنّ صوته جميل وكلاسيكي في الغناء، وتفوّق على نظيره السابق في الفيلم الأصلي “ريتشارد بيمر”، حيث أن صوت المغني الذي أدّى أغانيه كان مزعجًا بالنسبة إليّ.

 

بلا أدنى شك، سر جمال الفيلم وروعته هي “ريتشيل زيغلر”، التي قدّمت أداءً آسرًا للحواس كممثلة ومغنية بشخصية “ماريا”، وبالرغم من أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة بكونها عاشت حياتها وترعرعت في أمريكا، إلّا أنها أدّت الشخصية بلكنة لاتينية مُلفتة وجميلة في الحوارات والأغاني، وكم أعجز عن وصف جمال صوتها، الذي أدمنته بالاستماع لأغاني الفيلم في الألبوم، وخاصةً أغنية “Tonight” وأغنية “I Feel Pretty”.

 

الفنانة الراحلة “ناتالي وود” التي أدّت شخصية “ماريا” في الفيلم الأصلي كانت مبدعة كممثلة، ولكنها لم تأدِّ الأغاني، وقد تمت الاستعانة بمغنية مختصة، ولم يكن صوتها جميلًا، وهذه كانت مشكلة الفيلم الرئيسية، فأبطاله الأربعة جميعهم تمت دبلجة أصواتهم في الأغاني، واكتفوا بظهورهم كممثلين.

 

الفنانان المخضرمان “جورج شاكيريس” و”ريتا مورينو”، بشخصيتَيْ “بيرنادرو” وحبيبته “أنيتا”، كانا طاغيين على البطلين “توني” و”ماريا” في الفيلم الأصلي، وذلك لأنهما قدّما أداءً جميلًا، ولذلك فازا بجدارة بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد وأفضل ممثلة مساعدة.

 

النجم “ديفيد ألفاريز” كان مدهشًا بشخصية “بيرناردو”، ومَشاهده كانت ظريفة وجذّابة، وكذلك النجمة “أريانا ديبوز” بشخصية “أنيتا”. لقد تقمّصت الشخصية بشكل ساحر وجميل، كحبيبة “بيرناردو” وصديقة شقيقته “ماريا”. بقية النجوم كانوا رائعين، مثل “مايك فيست” بشخصية “ريك”، و”جوش أندريز ريفيرا” بشخصية “تشينو”، و”براين دارسي جيمس” بشخصية الشرطي، و”كوري ستال” بشخصية الضابط.

 

كما ذكرت، الفيلم الأصلي عُرض في عام 1961، وشاركت فيه الفنانة المخضرمة “ريتا مورينو” بشخصية “أنيتا”، ولقاء أدائها الجميل فازت بجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة، وبعد 60 عامًا تنضم إلى طاقم هذا الفيلم الجديد كمنتجة، وأيضًا كممثلة، حيث تؤدي شخصية “فالانتينا”، وهي شخصية جديدة تمت إضافتها، وهي صاحبة الصيدلية في الحي الغربي، وكم كان الأمر رائعًا ومهيّجًا للمشاعر والذكريات أن نرى فنانة مخضرمة في سن التسعين وهي تعود لتنعش ذاكرة الزمن الهوليوودي المجيد من خلال ظهورها القصير والمهم، وكأنها الملاك الحارس لجميع الشخصيات، بمن فيهم “أنيتا” الجديدة. أغنية “Somewhere” التي غنّتها كانت جميلة ومؤثرة.

 

مشهد البلكونة هو أجمل مشهد في الفيلم، وأعادني إلى السينما الأصيلة، حيث الرومانسية الكلاسيكية، والحب البريء من الحكايات الخيالية، واللحظات الخلّابة كحب “سندريلا والأمير” و”الجميلة والوحش” و”حورية البحر والأمير”، وهناك لحظات رومانسية عظيمة في هذا المشهد تستمر نحو دقيقة واحدة، وغمرتني بمشاعر وأحاسيس يندر انبعاثها في الأفلام الحديثة، تجعلني أرفع القبعة لـ “سبيلبيرغ”. لقد أسرني منذ مشهد التعارف في الحفلة الراقصة في قاعة المدرسة، ولاحقًا في مشهد الكنيسة.

 

كم افتقدت الأفلام الرومانسية العظيمة، وهذا الفيلم كان الهدية التي أهداني إياها “سبيلبيرغ” على الشاشة الكبيرة، وقد أبهرني، وأتمنى أن يخرج فيلمًا موسيقيًّا جديدًا، و”سبيلبيرغ” من المخرجين القلّة الذين يحبّون التنويع في الأفلام، ولا يحب الالتزام بنمط معين، ومع ذلك نشعر بلمساته الإبداعية في كل الأفلام.

 

هذا الفيلم من الأفلام القليلة جدًّا الذي يغيب فيها اسم “جون وليامز” كموسيقار رئيسي، وقد وُرد اسمه هنا كمستشار موسيقي، إذ أن موسيقى الفيلم والأغاني هي ذاتها الأصلية لـ “ستيفن سوندهايم” و”لينرد بيرنستاين”، وقد قام الموسيقار “غوستافو دودامل” بقيادة الأوركسترا وإعداد الموسيقى والأغاني بشكل أجمل وأروع، وكأنني أستمع إليها لأول مرة، وقد ذُهلت حقًّا.

 

المصور السينمائي المبدع “جانوش كامينسكي”، الفائز بجائزة الأوسكار لأفضل تصوير مرتين عن فيلم “Schindler’s List” وفيلم “Saving Private Ryan”، أدهشني بعدسته الرهيبة في التقاط المشاهد مع الإضاءة والظل، وأحيانًا أشعر أنني أتصفح مجلة كلاسيكية عتيقة، ولذلك أشيد كذلك بإبداعات مصمم مواقع التصوير “آدم ستوكهاوزن”، الذي جعلني أتجول في أحياء نيويورك القديمة، ولا أنسى مصمم الأزياء “بول تازويل” الذي أبدع في إظهار أزياء حقبة الخمسينيّات بأبهى حلّة. المونتير المبدع “مايكل كان”، الذي صاحبَ “سبيلبيرغ” في أغلب أفلامه محققًا الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل مونتاج 3 مرات، يعود ليبهرنا بمونتاج متقن للمشاهد وانتقال سلس وجميل بين اللقطات، وبشكل عام جميع الطاقم الفني والتقني أتمّوا عملهم على أكمل وجه، من المكياج وتصفيف الشعر والتحرير الصوتي والمؤثرات الصوتية، وبقية الأمور الأخرى.

 

“قصة الحي الغربي” هو واحد من أجمل الأفلام التي شاهدتها في حياتي، وبالتأكيد هو، وفيلم “Moulin Rouge!” أجمل فيلمين موسيقيين في الألفية الجديدة، وبعدهما “Chicago” و “La La Land” و “The Phantom of The Opera”. إنه فيلم متكامل فنيًّا، وإنجاز مبهر لـ “سبيلبيرغ”، وتفوّق رهيب على الفيلم الأصلي، بتقييمات عالية من النقاد والجمهور.

 

نالت النجمة “آريانا ديبوز” جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة، وترشّح الفيلم لنيل 6 جوائز أخرى، لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير وأفضل تصميم مواقع وأفضل تصميم أزياء وأفضل تحرير صوتي.

 

منذ بدء الخليقة، وقبل “شكسبير” وقبل “روميو وجولييت”، وقبل “قصة الحي الغربي”، قام “قابيل” بقتل “هابيل”. فكرة النزاع بين شخص وآخر ليست وليدة الأمس واليوم، فهي متوارثة لدى كل الأجيال على مر الزمان، وهذا الفيلم يعرض لنا هذه الفكرة. أي نزاع وحقد بين شخصين، أوعائلتين، أو عصابتين، أو دولتين، أو قارتين، يقود في النهاية إلى عواقف وخيمة. هل ونحن على مشارف نهاية الزمان أدركنا أننا كبشر لا نعرف أبدًا كيف نعيش في سلام؟!



شارك