مدونات
تحظى بعض البلدان بتواريخ مميزة، وأخرى بشديدة السوء، ومهما فسرها البعض على أنها نتاج الحظ ففي النهاية تظل الحقيقة أن التاريخ هو نتاج أصحابه من جهة، وأنه لا يسير على وتيرة واحدة مطلقاً من جهة ثانية.
على أن الأكثر تأثيراً هو أن تبتلى الأوطان بتاريخ جدلي، ملئ بتقاطع وجهات النظر واختلاف الرؤى، والإسقاطات اللاحقة على الحوادث السابقة، والقراءة المتحيزة والاستغلال الممنهج، وغسيل الأدمغة المتعمد والسرد الذي يزيف ويغير الأشكال والوقائع.
قد يبدو من الغريب للبعض أن يعاد طرح حدث ما برؤية مغايرة عما عرفه منذ عقود بخصوصه، أو يعاد قراءته والشخوص المرتبطون به بشكل مختلف، فيغدو الوطني خائناً، والمشروع المنقذ والثورة الجليلة تصفية حسابات أو تنفيذاً لأجندات مستترة، بل يُعاد توزيع المواقع جغرافياً فتتحرك حدود الأحداث والأشياء على نحو غريب وملفت بين الشمال والجنوب والشرق والغرب وهذه الجماعة أو تلك الطائفة، ثم يحول حول التبدل الحضاري والتداول فتعاد القراءات كل مرة بشكل مختلف.
ولاحظوا أني أقول قراءات، لأن الحدث في ذاته ليس المشكلة بل طريقة التعاطي معه، ومنهج التعامل معه بين الاستثمار والاستغلال والذي يمكن تلمس أسبابه وعوامله بالتدقيق في المرجعيات السياسية والفكرية التي تصدر عنها، والمرحلة التاريخية التي تكتب فيها ولا سيما في بعض دول عالمنا العربي التي ما تزال تقتات في غالبيتها على التاريخ الماضي، لعجز الحاضر عن تمثل الحالة المطلوبة للعبور نحو المستقبل المنشود.
وللمناهج الدراسية حصة الأسد في ذلك، فهي مرتكز مشروع صناعة الجيل الساند للأنظمة السياسية، مثلما أنها بوابة للتغذية الفكرية المستمرة بمفاهيم ومواقف لصالح هذه الجهة أو تلك، ومن الأمور التي تستدعي الانتباه أن تغيير تلك المناهج والذي يقدم في كل حين على أنه منجز وطني لا يعدو في غالبه أن يكون عملية إعادة ترتيب للفكر والتاريخ وتقديمهما في صورة مؤيدة للحاكم أو النظام حسب هويته وانتمائه.
والمؤسسات الفكرية ذات المرجعيات المختلفة لا تختلف عن الأنظمة الحاكمة في توظيف التاريخ لصالح رؤاها، إذ تعمل بعضها في إطار نشر فكرها أو ترسيخ معارضتها للنظام السياسي على اصطناع تاريخ مغاير وتثبيت مواقع للشخصيات الداعمة لها على نحو غير علمي، ويتم ليّ عنق الروايات بشكل قسري يكاد ينهي حياتها، والكل في ميدان تزوير التاريخ للأسف سواء!
ونمو هذه الظاهرة وتضخمها إنما يعود في أساسه إلى اضمحلال الهويات الوطنية، وتفكك الدول، واتساع هيمنة الهويات الفرعية على حسابها، فضلاً عن دخول التاريخ ـ كما ألمحنا سابقاً ـ أداة في معركة الصراع والبقاء.
ولا يخفى على أحد أن تحكم الاستبداد في رقاب الشعوب وطغيان الدكتاتوريات، عامل مؤثر للغاية، مما يجعل المؤسسات التعليمية والثقافية كافة تحت سطوته ورغباته، الأمر الذي يوجد تاريخاً جديداً يؤصّل لهذا الشذوذ السياسي ويمنحه صك الغفران عمّا يفعل، والمختصون بين راغب طامع وخائف يترقب مصيره، ووسط هذا المعترك يبقى الطرف المظلوم هو التأريخ نفسه وحده لا غيره، إذ تغتاله سيوف الانحياز والجهل في كل مرة، وتجمل صفحاته كل على هواه وما يريد.
لذلك كله أقول هنا أن على المؤرخين كافة مهمة عظيمة، فالتاريخ بين أيدينا مادة خام، والمؤرخون هم المسؤولون عن التثبت من أحداثه، وتقديم قراءة محايدة وجريئة ومحدّثة في آن واحد لأحداث التاريخ التي ستظل قابعة في الماضي وتنتظر يد المؤرخ المنصف كي يظهرها للعلن كما هي دون تزييف ولا تعسف، مع إدراك أن فهم التاريخ سيظل دون شك مدار اختلاف لأنه تعبير عن فهم وفكر بشري ولكننا نتحدث عن الانضباط ما أمكن بقواعد منهج البحث التاريخي الذي اتفق عليه أهل الاختصاص.
إن المطلوب اليوم هو امتلاك الجرأة والحيادية، وجعل الحقيقة والانتصار لها هو الهدف والأصل حتى لو خالفت قناعاتنا أو ما نؤمن به. وتلك مهمة المؤرخ الأصيل الثابت على موقفه لأجل الحقيقة مهما واجه من رياح عاتية تريد أن تحرف مساره وتوقعه في وديان التيه والاضطراب.