مدونات
لم تعد الخريطة الطبقية في سوريا تشبه ما كانت عليه قبل سنوات الثورة وذلك بفعل التدمير الممنهج الذي عمل عليه نظام الأسد خلال فترة حكمه، والتي تبلورت بشكلٍ رئيسي خلال سنوات الثورة، فالطبقة الوسطى تآكلت حتى اختفت تقريباً، وتحوّلت لكتلةٍ واسعة من الفقراء، وأمّا الفقراء فتحولوا لشريحةٍ واسعة تعيش فقراً مدقعاً، مقابل أقلية تتركّز لديها الثروة والقدرة على الوصول إلى الموارد والفرص.
هذا الاختلال ليس توصيفاً اجتماعياً فحسب، بل دليلاً على خلل سياسات اقتصاد النظام البائد؛ لأنّ غياب الطبقة الوسطى الفاعلة أضعف الطلب المحلي، وتراجعت الإنتاجية، واتسع الاقتصاد غير الرسمي، وتزايدت قابلية المجتمع للصدمات والاضطرابات. لذلك تصبح إعادة هندسة الطبقات الاقتصادية هدفاً سياسياً اجتماعياً عبر بناء مسار يرفع الموجودين في طبقة الفقر المدقع إلى مستوى أمان معيشي، وينقل الفقراء تدريجياً إلى طبقةٍ وسطى، ويحدّ في الوقت نفسه من تمركز الثروة والاحتكار عبر أدوات ضريبية وتنظيمية عادلة وفعّالة.
تشخيص الاختلال عبر أرقام تشرح عمق المشكلة.
أظهرت تقديرات سابقة للمنظمات الدولية حجم عمق المشكلة الذي أصاب البنية الاجتماعية، فبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار سابقاً إلى أنّ نحو 9 من كل 10 سوريين يعيشون في فقر، وأنّ استمرار التعافي بمعدلات نمو ضعيفة قد يجعل استعادة مستوى الناتج المحلي قبل الثورة صعب ويحتاج لفترة أطول، في قراءةٍ موازية، لفت البنك الدولي سابقاً إلى تآكل القاعدة الاقتصادية وتراجع الدخل القومي للفرد إلى نحو 830 دولاراً في 2024، مع اتساع الفقر بحيث يطال الفقر المدقع 1 من كلّ 4 بينما يعيش نحو الثلثين تحت خطّ فقر الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل.
هذه المؤشرات تعني عملياً أنّ ما انكسر ليس مستوى الدخل فقط، بل سلم الحراك الاجتماعي، رواتب تآكلت أيام النظام البائد سابقاً أمام التضخم، وأعمال منتجة انسحبت لصالح أعمال ريعية وسوق سوداء، وقطاعات خدماتية وصناعية فقدت رأس المال والمهارات، فتقلصت المسافة بين الفقر والطبقة الوسطى، وتحولت الطبقة الوسطى نفسها إلى فئاتٍ هشّة قابلة للانزلاق مع أيّ صدمة سعر أو مرض أو خسارة عمل.
رفع الفقر المدقع إلى فقر مستقر عبر أرضية حماية اجتماعية.
أول خطوة واقعية لإعادة تشكيل الخريطة الطبقية هي بناء أرضية حماية اجتماعية تمنع الانزلاق وتخفف صدمات الأسعار والدخل، دون العودة إلى دعمٍ عشوائي واسع يهدر الموارد ويخلق ريعاً جديداً. عملياً يمكن بناء سلة متكاملة من 3 أدوات.
أولها دعم غذائي للفئات عالية المخاطر في المناطق الأكثر تضرراً، وثانيها تأمين حد أدنى مضمون من الخدمات الأساسية (صحة أولية، أدوية الأمراض المزمنة، تعليم) لأنّ حرمان هذه الخدمات يعيد إنتاج الفقر عبر الأجيال، وثالثها برامج عمل كثيفة العمالة مثل برامج نقد مقابل عمل لإعادة تأهيل أصول عامة صغيرة كشبكات مياه محلية وطرق زراعية وصيانة مدارس.
أهمية هذا المسار لا تأتي من مبدأ أنّه يوقف نزيف رأس المال البشري والسلوكيات القسرية مثل عمالة الأطفال، والزواج المبكر، وخفض استهلاك الغذاء وحالات الانتحار، وهي أنماط تربطها وثائق الأمم المتحدة مباشرة باتّساع الفقر وانكماش فرص العمل وتدهور الخدمات.
نقل الفقراء إلى الطبقة الوسطى عبر سياسة إنتاج ووظائف لا سياسة إعانات.
لا تبنى الطبقة الوسطى بالتحويلات المالية التي بالأساس غائبة بحكم ضعف قدرات الحكومة على التمويل، بل عبر دخل عمل منتج ومسار صعود اجتماعي يمكن التخطيط له، لذلك يلزم الانتقال من عقلية “إدارة الفقر” إلى عقلية “خلق الفرص” عبر ثلاث رافعات مترابطة:
أولاً: قطاعات تشغيل سريعة مثل الزراعة وسلاسل القيمة الغذائية المرتبطة بالتجميع، والتصنيع بسيط، والصناعات الخفيفة، والخدمات القابلة للتصدير أو لإحلال المستوردات، وإعادة الإعمار المحلي كثيف العمالة.
ثانياً: المنشآت الصغيرة والمتوسطة باعتبارها مولّد الوظائف الأوسع، وذلك عبر تمويل صغير ومتوسط مع صناديق ضمان لتقاسم المخاطر، وتبسيط الترخيص والضرائب للمنشآت الصغيرة مقابل حوافز للانتقال إلى الرسمي، وربط المشتريات العامة بتمكين المنتج المحلي قدر الإمكان.
ثالثاً: المهارات والأجور، عبر تقديم تدريبات مهنية سريعة موجّهة لحاجات السوق، ورفع مشاركة النساء والشباب عبر خدمات مساندة مثل الحضانة، والنقل الآمن، وتنظيم عمل مرن، وسياسات أجور أكثر واقعية حيث تسمح الموارد، مع حماية العامل من الاستغلال.
عندما يبدأ دخل الأسر بالاستقرار عبر السياسات الاقتصادية العقلانية ويصبح الادخار ممكناً، تتكوّن تدريجياً طبقة وسطى ناشئة تحرك الطلب، وتستثمر في التعليم والصحة، وتخلق سوقاً لمنتجاتٍ محلية بدل منتجات اقتصاد المضاربة، وهذا ما يساهم في تعزيز السلم الأهلي والاستقرار المجتمعي ويعزز من العقد المجتمعي الرابط بين الدولة والمجتمع.
معالجة تمركز الثروة عبر الضرائب والزكاة وتنظيم المنافسة.
إعادة التوازن في الطبقات الاقتصادية تتمّ عبر سياسات ضريبية وتنظيمية تعد جزءاً من العقد الاجتماعي الجديد عبر أدوات متوازية تتمثّل بإصلاح ضريبي تصاعدي يخفّف العبء عن الشرائح الدنيا والمتوسطة ويزيد مساهمة الأرباح الكبيرة حيث توجد، وضرائب على الملكية، والعقار، والأراضي غير المستثمرة للحد من المضاربة وتحفيز توظيف الأصول في نشاط منتج، وقانون منافسة فعّال وهيئة تنفيذية تردع الاحتكار وتزيد شفافية المشتريات العامة، وتقديم حوافز استثمار منتج مشروطة بعدد الوظائف أو نقل المعرفة أو نسبة المكون المحلي العامل.
كما يمكن لزكاة أصحاب المشاريع الكبرى خصوصاً أن تكون أداة رئيسية بجانب الضرائب في إعادة توزيع الدخل، بشرط إخراجها من نطاق المبادرات المتفرقة إلى إطارٍ مؤسسي شفاف يضمن وصولها للفئات الأشد هشاشة. ويكون ذلك عبر توجيه جزء معتبر منها نحو تمويل شبكات الأمان الاجتماعي وسداد الاحتياجات الأساسية من الغذاء، والدواء، والإيجار، بما يرفع الأسر من الفقر المدقع إلى حدّ الكفاية. ومع الحوكمة والرقابة، تصبح الزكاة قناة تضامن فعّالة تقلل الاحتقان الاجتماعي وتخفّف الضغط.
عموماً إنّ إعادة هندسة الطبقات الاقتصادية في سوريا ليست ترفاً فكرياً ولا شعاراً أخلاقياً فقط؛ إنّها شرط للاستقرار السياسي والتعافي الحقيقي للمجتمع والاقتصاد، فطبقة وسطى واسعة تعني مجتمعاً أقل قابلية للانفجار، واقتصاداً قادراً على توليد الطلب والاستثمار من الداخل، ودولة تملك قاعدة ضريبية أوسع لتمويل الخدمات. لكن المسار العملي يحتاج تسلسلاً واضحاً عبر سياسات تركز على رفع الفقر المدقع إلى فقرٍ آمن، من خلال سياسة إنتاج ووظائف تنقل الفقراء إلى طبقةٍ وسطى ناشئة، ثمّ إصلاح ضريبي وتنظيمي يكبح الاحتكار وتمركز الثروة ويعيد بناء الثقة. والنجاح هنا لا يتطلب وعوداً كبيرة بقدر ما يتطلب أهدافاً قابلة للقياس، وشفافية في الموارد والإنفاق، ومؤسسات تنفيذ تستطيع أن تجعل العدالة الاقتصادية أمراً رئيسياً في البلاد.




