مدونات

شراكة بلا وصاية مع موسكو

ديسمبر 26, 2025

شراكة بلا وصاية مع موسكو

 

محمد عبد الحميد السطم

 

تشهد السياسة الخارجية السورية في مرحلتها الراهنة تحوّلًا ملحوظًا في مقارباتها وأدواتها، في محاولةٍ لإعادة تموضع الدولة داخل المشهدين الإقليمي والدولي، ويقوم هذا التحوّل على تبنّي نهج أكثر توازنًا ومرونة، يسعى إلى إدارة العلاقات الدولية وفق منطق المصالح المتبادلة وتوزيع الأعباء والضغوط، بدل الاستناد إلى تحالفات صلبة أو اصطفافات مغلقة.

وفي هذا السياق، تعمل دمشق على إعادة تقييم علاقاتها مع القوى الفاعلة، بما فيها تلك التي أدت أدوارًا مركزية خلال المرحلة السابقة، وفي مقدمتها روسيا، في إطار مراجعة شاملة لطبيعة الشراكات التي سادت في عهد النظام البائد. وتأتي هذه المقاربة الجديدة بوصفها جزءًا من سعيٍ أوسع لبناء سياسة خارجية تتميز بالتوازن والاستقلالية، قادرة على التكيّف مع التحوّلات الدولية، والاستجابة لتحديات المرحلة الانتقالية.

تندرج المقاربة الدبلوماسية السورية الجديدة ضمن مسعى واضح إلى توزيع الضغط الدولي وعدم ترك القرار السياسي رهينة لطرفٍ واحد أو مسار واحد. فبعد سنواتٍ من تركز الأعباء السياسية والعسكرية والاقتصادية على علاقة محدّدة، باتت دمشق أكثر ميلًا إلى تنويع قنوات التواصل، بما يسمح لها بإعادة التوازن إلى شبكة علاقاتها الخارجية وتقليل كلفة أيّ توتر محتمل مع طرفٍ بعينه.

ويُنظر إلى هذا التوجّه بوصفه محاولة لإدارة التناقضات القائمة بين الفاعلين الدوليين بدل الاصطدام بها، عبر توظيف تعددية المصالح وتباين الأولويات الدولية لصالح الحد الأدنى من الاستقرار السياسي. معتبرة أنّ كلّما اتسعت دائرة الشركاء، تراجعت قدرة أيّ طرفٍ على استخدام أدوات الضغط الأحادي، سواء على مستوى العقوبات أو الملفات السياسية أو حتى المقاربات الأمنية.

كما يوفّر هذا النهج لدمشق قدرة أفضل على المناورة في القضايا الشائكة، من خلال نقل بعض ملفاتها من الإطار الثنائي الضيق إلى فضاءٍ أكثر تعددية، يتيح إعادة طرحها بشروط أقل اختلالًا في ميزان القوى، ويمنح السياسة الخارجية السورية مرونة أكبر في التعامل مع استحقاقات المرحلة المقبلة.

تتضاعف أهمية المقاربة الدبلوماسية السورية في ضوء العامل الزمني، ولا سيّما مع اقتراب استحقاقات حساسة مرتبطة بالوضع في الشمال الشرقي من البلاد. فالتفاهمات القائمة بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية تواجه اختبارًا حقيقيًّا مع اقتراب انتهاء مهلها الزمنية، ما يفتح المجال أمام سيناريوهات متعددة، تتراوح بين إعادة التفاهم السياسي أو الانزلاق نحو تصعيد أمني محدود أو واسع.

في هذا السياق، تبدو دمشق معنية بإدارة هذا الملف بأقل قدرٍ ممكن من التعقيد الدولي، عبر السعي إلى تحييد بعض الأطراف المؤثرة أو تقليص مستوى تدخلها في حال تعثرت المسارات السياسية. ويبرز هنا البعد الروسي بوصفه عاملًا لا يمكن تجاهله، سواء من حيث الحضور العسكري أو التأثير السياسي في حسابات الأطراف المحلية والدولية.

وعليه، يمكن قراءة الحراك الدبلوماسي السوري ضمن محاولة استباقية لضبط مواقف الفاعلين الدوليين، ومنع تحوّل أيّ تصعيدٍ محتمل إلى ساحة صراع متعددة الأطراف. فكلّما نجحت دمشق في تقليص عدد اللاعبين المنخرطين في المشهد العسكري، ازدادت قدرتها على إدارة الأزمة ضمن حدود يمكن التحكم بمآلاتها السياسية والأمنية.

إضافة إلى ذلك، باتت الانتهاكات الإسرائيلية المتكرّرة تمثّل أحد أبرز التحديات التي تواجه الدبلوماسية السورية في المرحلة الراهنة، لا سيّما في ظلّ اختلال موازين الردع العسكرية واستمرار الغطاء الدولي لهذه الانتهاكات. وفي هذا السياق، تسعى دمشق إلى نقل المواجهة من المجال العسكري المحدود إلى الفضاء السياسي والدبلوماسي، عبر إعادة تدويل القضية وإدراجها ضمن النقاشات الدولية بوصفها عامل تهديد للاستقرار الإقليمي.

وتندرج محاولات تفعيل القنوات مع موسكو ضمن هذا الإطار، باعتبار روسيا فاعلًا دوليًّا يمتلك أدوات سياسية وقانونية مؤثرة، سواء من خلال موقعها في مجلس الأمن أو عبر علاقاتها المعقّدة مع مختلف الأطراف المنخرطة في المشهد السوري. ورغم إدراك دمشق محدودية القدرة الروسية على كبح السلوك الإسرائيلي ميدانيًّا، تراهن على الدور السياسي لموسكو في رفع كلفة هذه الانتهاكات على المستوى الدولي، ولو في حدها الأدنى.

كما تسعى سوريا من خلال هذا المسار إلى تفكيك الرواية التي تبرر الاعتداءات الإسرائيلية تحت عناوين أمنية، وإعادة التأكيد على أنّ استمرار هذا النمط من الانتهاكات يقوّض أيّ مسعى للاستقرار أو التسوية. وبذلك، تتحوّل الدبلوماسية إلى أداة ضغطٍ تراكمية، تهدف إلى بناء موقف دولي أكثر حساسية تجاه السلوك الإسرائيلي، وإن لم يترجم ذلك فورًا إلى إجراءات رادعة.

في ضوء ما سبق تكشف المقاربة السورية الجديدة عن محاولةٍ واعية لإدارة مرحلة انتقالية معقّدة، عبر سياسة خارجية تقوم على التوازن لا الاصطفاف، وعلى إعادة ضبط الشراكات بدل الارتهان لها. وفي هذا الإطار، تندرج العلاقة مع روسيا ضمن مسار إعادة تعريف الأدوار، حيث لم تعد موسكو مظلّة مطلقة، ولا دمشق طرفًا تابعًا، بل شريكين تحكمهما معادلة المصالح وحدود القدرة.

وتسعى دمشق، من خلال هذا النهج، إلى تقليص كلفة الضغوط الخارجية، وضبط تداخل الفاعلين الدوليين في ملفاتها الحساسة، خصوصًا في ظلّ استحقاقاتٍ أمنية وسياسية مفتوحة. كما تحاول توظيف أدوات الدبلوماسية لتوسيع هامش الضغط السياسي في القضايا الخلافية، وفي مقدمتها الاعتداءات الإسرائيلية، دون الانزلاق إلى مواجهاتٍ غير محسوبة.

وعليه، فإنّ السياسة الخارجية السورية لا تتجه نحو قطيعة مع الماضي ولا إلى استعادته، بل إلى إعادة هندسته بما يتلاءم مع موازين القوى الراهنة. ويبقى التحدي الحقيقي أمام هذا المسار في قدرته على الصمود أمام الاختبارات العملية، وتحويل التوازن الدبلوماسي من خيارٍ نظري إلى أداة فعالة في إدارة المصالح الوطنية.

 

 

شارك

مقالات ذات صلة