أدب

ليلة العيد التي لم تُحتمل

ديسمبر 24, 2025

ليلة العيد التي لم تُحتمل

حلا حطبي

أزيز ذبابة أزعج غفوتي، كان رأسي متدلٍ فوق صدري عندما كنتُ مسلماً عينيّ لسِنةٍ على مقعدي الخشبي العتيق، ألا يفترض بالساعة أن تكون قد شارفَت على منتصف الليل أو نيّفَت قليلاً؟ إذن لماذا ما يزال يتناهى إلى سمعي الثقيل صوت صخب السيارة وصياح الباعة أيّهم سيرفع صوته أكثر جاذباً كمّاً أكبر من الزبائن ذوي الجيوب المحشية بالأوراق؟! 

وفي لحظةٍ أعربَ جسدي عن رَهقٍ اعتصره فأمسى ينوء تحت ثقله، سارعتُ للبحث عن تلك الأقراص البيضاء المغلفة التي يبتلعها المرء حين يشيخ أو يصرخ عضو من جسده طالباً الإنجاد.. آه، تذكرت، للأسف نفدَت مني بالأمس.

يا للهول، سأضطر لدكّ عظامي ذات الأعوام الثمانين المغطاة بجلدٍ يابس بين أكوام اللحوم البشرية في الخارج.. اليوم كان الأخير من شهر رمضان المبارك وأحسب أن غداً أول أيام عيد الفطر الذي يدعوه الناس بـ”السعيد”، أما عن شخصي الهرِم فلا أرى في أيامه اختلافاً عن أي يوم يدنو بي من أجلي.. بل إن صخب العالمين وجَهورهم يسهد ليلي ويغرقني في بحرٍ من السخط و اللوم.

أوووه.. أخيراً بعد جهد مطوَّل وصلَت كفي المرتعشة إلى قبضة الباب الصدئة، ما أزال أكره صوت أنين مفاصل الباب رغم مضيّ ثلاثين سنة وهو يخترق أذني الحمراء الكبيرة. ياله من يومٍ تعسٍ ذاك الذي أمضيتُ فيه على ذيلِ ورقةِ عقدِ شراءِ هذا المنزل الواقعِ في الطابق الخامس.

مع كل درجةٍ روحي تزهق وأنفاسي تضيق وقدماي المرتجفة تحطان وترتفعان باختلاجٍ ولَّدَه الكِبَر.. تدفق الدم إلى رأسي الذي اكتنز على مدار الثماني عقود أفكاراً وهموماً، وتسارعَ نبض الاستنجاد الذي أطلقه قلبي المستغيث علّ إعانةً تشدّ عضده.

أخيراً.. أخيراً، وصلتُ إلى الممر الذي يؤدي إلى الشارع العام، تعالى صوت الضجيج البشري وبتُّ أرى ألواناً مُبهرجة طغَت على الدكاكين فأحالتها عن الهيئة التي اعتدتُ أن ألقاها فيها، وقفتُ محتاراً وسط هذي الفوضى العارمة والهياج الإنساني أطالعُ بناظري وأتصفح الواجهات المحيطة بي علّها تقع على الصيدلية التي ألِفتُ ارتيادها طالباً شفاء غلّ الداء الذي ينهش ضعفي.

قطعتُ أشواطاً متكئاً على قدمي الثالثة الخشبية التي أورثَتها يدي المعروقة رجفةً زلزلَت أركانها، وأخيراً قبض الجلد الجاف بارز الأوعية الدموية على مبتغاي من مهدئ أعاصير الأوجاع، والآن بدأت رحلة الإياب تجاه الحاضن الحجري العتيق الواقع في ذروة البناء الذي أسكن، ويكرر العذابُ نفسه بصعودي إلى وكر الشيخوخة.

وأخيراً تهالك جسدي على الكرسي الخشبي العتيق وحانَت اللحظة التي سأبتلع فيها ما يُخبي ألسنة لهيب الآلام. ولكن سُحقاً، يدي خاوية عن تلك الأقراص البيضاء المغلفة، يبدو أن انهماكي بارتقاء درج التعذيب قد أذِن لها بالانسلال من قبضة العجوز المتراخية.

ترى هل ستحملني ساقاي الهرمتان لهبوط السلم مرةً أخرى تقصيّاً لأثرها و تنقيباً عن مخبئها؟ عندما وصلتُ إلى هذا الحد من التفكير شعرتُ بوخزِ العظام المحشية داخل لحمي، فعلمتُ أنها عاجزة عن التحرك خطوةً واحدة وإلا فسيكون الانهيار، يا للخذلان.. هل أترك الأمراض تنخر ما تبقى مني دون أن أقدر على إثمالها قليلاً؟! مع اقتراب بزوغ شمس فجر العيد سكن دبيب الأفكار، وتراخت قبضة الآلام، جمد السائل الأحمر في العروق وخمد الخافق التَعِب. 

وعندما تسللَت خيوط الشمس الأولى من النافذة العجوز عانقَت تجاعيد وجه جثة الهرِم الهامدة فوق الكرسي الخشبي العتيق، هناك أسفل الدرج كانت الأقراص البيضاء تنتحب و تجهش بالبكاء آملةً أن تنتاب شاريها همةٌ ترنو به إليها، ولكن ماذا الآن بعد فوات الأوان؟ لا تحزني أيتها الأقراص الصغيرة، فالآن بات عيد الفطر “سعيداً” بالنسبة له.

شارك

مقالات ذات صلة