سياسة
تسعة أشهر مضت على توقيع اتفاق 10 آذار/ مارس بين الدولة السورية ومليشيا قسد، غلبت عليها المماطلة والتسويف، وهروب قسد نحو الأمام للحيلولة دون تطبيق الاتفاق أو إحراز تقدم على الأرض، من حيث دخول مؤسسات الدولة وتسليم الحدود الإدارية لدير الزور، كبادرة حسن نية وإظهار جدية في تنفيذ الاتفاق، وبدلاً من ذلك شاركت قسد في حملاتٍ رقمية ضد الدولة السورية عبر حسابات رديفة، واستغلت أحداثاً معينة لإظهار تصريحات استفزازية فيها ما فيها من المناكفات، أبرزها هجوم تدمر ضد قوى الأمن السورية والوفد الأمريكي، وتقديم نفسها حليفاً بديلاً للدولة السورية في ملف مكافحة الإرهاب، وهي مؤشرات تُكرّس انعدام الرغبة في الوصول إلى حلول سلمية.
يناقش هذا المقال عوامل انهيار قسد في الخيار العسكري، والإنذارات التي تدفع الدولة لتجنب هذا السيناريو، والأعباء والتكاليف التي تترتب على إدماج قسد في مؤسسات الدولة.
عوامل الانهيار.
تقوم قسد على تركيبة بنيتها غير متجانسة، بين عشائر عربية، وتيارات متطرفة لديها أحلام انفصالية تتشدّد في تعطيل الاندماج، وبالتالي لا يمكن اعتبار المفاوضات بين طرفين اثنين متجردين من أيّ فواعل تمارس ضغوطات أو تحاول التأثير على مسار المفاوضات، وتضع عوائقاً أمامها، وإذا سلّمنا بفرضية تقول إنّ مظلوم عبدي جاد في تطبيق الاتفاق، فهو الحلقة الأضعف داخل مليشيا تعلو فيها كلمة تيارات متطرفة، وغياب وحدة القرار ومركزيته عند قسد ستكون أحد أهم عوامل الانهيار مع تفاقم الخلافات الداخلية إذا خرجت الرصاصة من بيت النار ولعب مظلوم عبدي دور المستقطب لصالح الدولة، وانقلبت العشائر على قسد بضمانات متفق عليها.
لا يوجد مقاتل دون دوافع، وفي مليشيا مثل قسد تعتمد بشكلٍ كبير على التجنيد الإجباري يعني معدلات فرار أعلى في المعركة مع غياب الدوافع الثأرية والأيديولوجية التي تشجع على المواجهة، ووجود مقاتلين نفوسهم خاوية من عقيدة عسكرية صحيحة، وحده التيار المتطرف يقاتل عن إيمان بقضية انفصالية، وجعبته خالية من تجارب ناجحة بعد أن تلقى هزائم متتالية وخسارات مدوية من عفرين إلى تل أبيض ورأس العين، وكلها تجارب محبطة يستثمر بها في إطار الحرب النفسية، واتباعها بفتح الدولة باب الانشقاقات وترك السلاح مقابل العفو سيشكل خرقاً كبيراً يسرع عملية الحسم العسكري ويحقن الدم السوري على غرار عملية ردع العدوان.
انشقاق شخصيات كبيرة عن قسد يعتبر احتمالاً وارداً ومرهوناً بقدرة الدولة على شراء الولاءات وتوظيفها في سياق تسريع الحسم العسكري، ويشكّل ضربة معنوية ويخلق حالة تخبط ضمن الصفوف الداخلية لقسد.
في ميدان بلا ظهر وجغرافيا مفضوحة لا جبال فيها، تصبح المقاومة صعبة جداً وثقيلة على قسد التي لم تصمد في جبال عفرين، وتضاريسها المثالية المتخمة بالأنفاق والتحصينات المبالغ في هندستها، حتى تصمد في الجزيرة السورية، وتعيد الآن المحاولة بنفس الأسلوب عبر شراء الوقت والاستمرار بحفر الأنفاق، لكن كلها ذات قيمة منقوصة إذا كانت المخابرات التركية تمتلك نسخة عن المخططات الخاصة بالأنفاق والتحصينات.
عند الحديث عن بيئة طاردة كما يصفها السيد وزير الإعلام، بما فيها من تجنيد إجباري واعتقالات تعسفية وقيود اقتصادية، وخدمات متدهورة على الرغم من وجود ثروات نفطية تحت سيطرة قسد يمكن أن توظف لخدمة المنطقة وتطوير البنية التحتية، لكنّه مؤشر على غياب الرؤية والمشروع، وكلّ ما ذكر من أسباب تفسّر غياب الحوامل المجتمعية بعد أن أصبحت قسد كابوساً جاثماً على صدور الأهالي لسنوات، وينفي وتنفي وجود خزان بشري يدافع عنها إذا بدأ الهجوم، وسيتركها الأهالي لمصير تاقوا شوقاً إليه.
اعتماد قسد المفرط على الدعم الأمريكي عامل خطورة بالنسبة لها، إذا اتخذت الولايات المتحدة موقفاً حيادياً عند اندلاع المواجهات، إذ اعتادت على قتال التنظيمات بغطاءٍ جوي مكثف فيما تفتقد للخبرة في قتال الجيوش، وهذه جزئية يستثمر بها أيضاً في الحرب النفسية.
وجود دعم استخباراتي عبر غرفة عمليات سورية تركية وخطوط ساخنة لمشاركة معلومات تسرع الحسم العسكري، ودخول الطائرات المسيرة لتنفيذ عمليات اغتيال ضد شخصيات مهمة، سيكون لحظة فارقة في تسارع الأحداث وتسارع الانهيار.
حالة التطويق الجغرافي من 3 جهات بما فيها حدود الحليف التركي، عامل ضعف لقسد وقوة للدولة في تقطيع الأوصال وإحكام الكماشات، حتى طرد قسد نحو الحسكة حيث المنفذ الوحيد فيها مع العراق ليفرّ التنظيم الراديكالي إلى جبال قنديل من حيث أتى، وتطوى صفحة من صفحات الانفصال، إلى الأبد.
أعباء الاندماج
وجود كتل عسكرية وأمنية لقسد في الدولة السورية يعني خليطاً بين عقيدتين عسكريتين، الأولى انبثقت من رحم الثورة والثانية تشرّبت فكر المليشيا عند تنظيم جمعته مع النظام البائد مصالح متقاطعة في كثير من الأوقات، وهنا اجتماع النقيضين، وإعادة انتاج لمفهوم المليشيا لكن بلباسٍ رسمي ومظهر أنيق، وإذا أردنا أن نبتعد عن لغة التعجيز ونتجنب الأحلام الوردية، فالاتفاق هو اتفاق الضرورة ووقّع عليه في توقيت كان المشهد الميداني صعباً ومعقّداً، واعتُبر حينها خروجاً بأقل الخسائر، وأفضل الممكن.
الاندماج سيحمّل وزارتي الدفاع والداخلية أعباء مكلفة من حيث الزمن والجهد المطلوب، لتفكيك تيارات وهياكل قيادية وفرط كتل على المدى البعيد، ويجعل إنذار الاختراق سيئاً في المؤسستين العسكرية والأمنية من عناصر متقلبة أو مزدوجة الولاء يسهل شراؤها والتلاعب بها، ويكرّس فكرة سيئة تقول: من يفرض أمراً واقعاً بقوة السلاح يُكافأ بالشّراكة، وهذا يعطي جرعة معنوية للعصابات المحلية في السويداء للتصعيد والاستفزاز والشغب ورفع سقف المطالب والشروط، على عكس العمل العسكري الذي سيشكّل ضربة معنوية لها وسيكون تحرير الجزيرة بمثابة زلزال يصل ارتداده إلى الجنوب، وعلى الصعيد السياسي يبقى الجانب الإيجابي بترويج الدولة لنجاح الدبلوماسية من جديد وقدرتها على احتواء كلّ الأطراف.
سيناريوهات متوقعة.
السيناريو الأول: عمل عسكري محدود يشمل الحدود الإدارية لدير الزور وأجزاء من الرقة، للضغط على قسد والعودة مجدداً لطاولة المفاوضات.
السيناريو الثاني: تمديد مهلة الاتفاق حتى شهر آذار/ مارس المقبل، مقابل تسليم الحدود الإدارية لدير الزور وأجزاء من الرقة بشكل فوري.
السيناريو الثالث: تصاعد التهديدات والدفع بتعزيزاتٍ نحو خطوط التماس للتلويح بالخيار العسكري، بالتزامن مع ضغوط أمريكية تفضي للمباشرة بتطبيق الاتفاق.
السيناريو الرابع: عمل عسكري واسع النطاق، للسيطرة على كامل الحدود الإدارية لدير الزور والرقة، وإطباق الحصار على قسد في الحسكة مع ترك منفذ وحيد لها لتعود إلى جبال قنديل في لحظةٍ فارقة تتبدّل فيها الرايات، وترفع الراية البيضاء معلنة نهاية مشروع انفصالي وأحلام واهمة.
ختاماً، عوامل الانهيار مجتمعة تثير حماس القارئ وربما تدفعه للتسرع بالتوجه نحو الحسم العسكري لو كان في مراكز صنع القرار، لكنّها تأخذ بالدولة للتريث لأنّها ليست مستعدة لإحداث لجنة تقصي حقائق جديدة بعد أحداث السويداء، لا سيّما أنّ خطورة العملية بموقعها في منطقة عشائرية قد تشهد انتقامات من بعض عناصر في الجيش السوري من أبناء المنطقة نتيجة نقمتهم على قسد.
وهذه لا يمكن تقزيمها في المقال إلى جزئية، لأنّها محور يحتاج دراسة معمقة قبل الإقدام على قرار مثل هذا، ثمّ أيّ عملية عسكرية مهما كانت منضبطة تستغلها وسائل إعلام معادية للإضرار بسردية الدبلوماسية السورية والترويج لسوريا “غير مستقرة”، ولهذا كنت أعيد التأكيد بين الحين والآخر على ضرورة تسريع الحسم العسكري، فعامل الوقت من الأهمية بمكان، لقطع الطريق عليهم.





