Blog

كيف احتفلت إسرائيل معنا بذكرى سقوط الأسد؟

ديسمبر 20, 2025

كيف احتفلت إسرائيل معنا بذكرى سقوط الأسد؟

في الشهور التي تلت سقوط الأسد، بدا أنّ سوريا استعادت صوتها الممنوع منذ عقود. المدن ازدحمت بالهتاف، والعواصم العربية تدافعت بالمصافحات والقمم، وأطلّ السوريون على عامٍ جديد كأنّهم أخيراً قد خرجوا من النفق. كانت لحظة سقوط النظام احتفالاً مزدوجاً: بانتهاء الكابوس، وبداية تُراد لها أن تكون سيادة جديدة. غير أنّ هناك طرفاً بقي بعيداً عن المشهد، لا يبتسم ولا يعترض، بل يتحرّك في صمت محسوب: إسرائيل.

ففي الوقت الذي ارتفعت فيه الأعلام السورية من حوران إلى حلب، كانت إسرائيل تبني قواعد عسكرية داخل الجنوب السوري، وتنفّذ أجرأ عملية برية قرب دمشق، وتقصف وزارات سيادية في قلب العاصمة. وبينما كانت خطابات الرئيس الجديد تتحدث عن وحدة التراب، كانت تل أبيب تفاوض على مناطق منزوعة السلاح، وتدعم فصائل درزية بالسلاح والرواتب. لم تكن إسرائيل ترفض سقوط الأسد… لكنّها أيضاً لم تكن تريده بدايةً لأيّ شيء. وهنا يكمن السؤال الأخطر في حصاد هذا العام: كيف تحتفل إسرائيل معنا بسقوط الأسد؟

لا يُطرح السؤال هنا بوصفه تساؤلاً تهكميًّا، بل بوصفه مدخلاً لفهم تحوّل دقيق: كيف تتحرّك إسرائيل عندما ترى نظاماً سقط، بعد أن أرست معه قواعد لعبة عبر عقود؟ ما الذي تفعله حين تنسحب طهران، ويغيب الأسد، ويقف على الحدود جيشٌ جديد لا يُشبِه حساباتها السابقة؟ هل تخاف من البديل، أم تتدخّل قبل أن يُصبح بديلاً فعليًّا؟ وهل يعني سكوتها أنّها راضية، أم أن صخب ضرباتها هو لغتها الوحيدة لرفض الشكل الجديد من سوريا؟

السقوط يغير قواعد اللعبة

لم يعرف الجنوب السوري تغيّراً في قواعد اللعبة كما عرفها خلال العام الذي تلا سقوط الأسد. فمنطقةٌ ظلّت منذ اتفاق فصل القوات عام 1974 أكثر الجبهات هدوءاً، بين طرفٍ يقول إنّه في “حالة حرب” وطرفٍ يرفع شعار “الممانعة”، تحوّلت فجأة إلى مساحةٍ مفتوحة للتحرّك الإسرائيلي المباشر. كان الجنوب لعقودٍ جزءاً من معادلة ثابتة: الأسد لا يقترب من خطّ وقف إطلاق النار، وإسرائيل لا تتوغّل براً. ومع سقوط النظام، انهارت هذه المعادلة دون إعلان رسمي، لتبدأ تل أبيب بإعادة بناء جدار أمني داخل الأراضي السورية، لا على حدودها فقط.

فخلال السنة الماضية، نفذت القوات الإسرائيلية سلسلة من التوغلات البرية الموسّعة في محيط القنيطرة وبيت جن، بعضها وصل بضعة كيلومترات داخل الحدود السورية، مبررةً ذلك باعتبارات “منع التهديدات المحتملة من الفراغ الأمني”. هذه التوغلات لم تكن عمليات عقابية، ولا مداهمات محدودة كما جرت في العقد الماضي، بل كانت أشبه بفرض “خط تماس جديد” تبنيه إسرائيل على مهل، وتختبره من خلال عمليات متكررة. العدوان الأكثر وضوحاً كان في بيت جن، حيث نفذت إسرائيل عملية جوية – برية مشتركة، وأسست نقاط مراقبة ثابتة تُشرف على امتداد السفوح الشرقية لجبل الشيخ.

ولم تقف المسألة عند العمليات العسكرية، بل اتخذت شكل تموضع سياسي – أمني واسع؛ إذ زار نتنياهو الشريط الحدودي مباشرة بعد زيارة الرئيس الشرع لواشنطن، في رسالة واضحة مفادها: إسرائيل لن تنتظر لترى ما إن كانت الدولة السورية الجديدة ستتمكن من السيطرة على الجنوب، بل ستتقدّم إلى النقاط التي تراها ضرورية قبل أن تتبلور أيّ بنيةٍ عسكرية أو إدارية جديدة في المنطقة. وبينما كانت دمشق تعيد ترتيب مؤسساتها وتنتقل من صدمة السقوط إلى مشروع إعادة البناء، كانت إسرائيل تُعيد رسم حدود جديدة للأمان، حدود لا تُلزمها بها الخرائط القديمة.

هذا التغيّر لم يكن انعكاساً لسقوط الأسد فقط، بل غياب ما كان يشكّل “ضابط الإيقاع” في الجنوب: جيشٌ مرتبط بموسكو، خطوط تماس ثابتة، وميزان خوفٍ متبادل. ومع غياب هذه العناصر، تعاملت إسرائيل مع الجنوب باعتباره مساحة يجب ملؤها، لا انتظار شكل السلطة التي ستتولاها. ولذلك، فإنّ الجنوب السوري بعد عامٍ من السقوط لم يعد منطقة حدودية، بل أصبح مختبراً مبكراً لتكتيكات إسرائيل تجاه سوريا الجديدة.

بوابة للنفوذ المباشر.

لم يكن ملف الدروز في الجنوب السوري مجرّد شأنٍ داخلي محصور بجبلٍ يبحث عن تماسكه بعد سقوط الدولة المركزية، بل تحوّل سريعاً إلى بوابة النفوذ الأكثر مباشرة لإسرائيل داخل سوريا الجديدة. فبينما انشغلت دمشق بإعادة بناء مؤسساتها المشتتة، كانت تل أبيب تتعامل مع الدروز باعتبارهم الحلقة التي يمكن بلوغها، وإقناعها، ودعمها، ثمّ استخدامها كجسرٍ دائم لإدارة الجنوب من الداخل. لم تفعل ذلك بخطاب عدائي أو تصريحات تفجيرية، بل عبر مزيج بالغ الذكاء من “حماية الأقليات” و”الروابط العائلية عبر الجولان” و”ضمان الأمن ضد الفوضى”، وهي لغة لطالما برعت إسرائيل في استخدامها حين تتعامل مع فراغات الدول المجاورة.

فعقب سقوط الأسد، بدأ النشاط الإسرائيلي يتخذ شكلاً أوضح: لقاءات مباشرة مع زعامات محلية على الجانب المحتل من الجولان، غرف تنسيق لإيصال مساعدات ووسائل اتصال، وتمويل مجموعات مسلحة صغيرة بحجة “الدفاع الذاتي”. لم يكن الهدف الإعلان عن علاقة رسمية، بل بناء شبكة تعتمد عليها تل أبيب في فهم ما يجري داخل الجنوب، والتحرك بناء على معلومات دقيقة، وتثبيت موطئ قدم سياسي وأمني في منطقة تُعد الأكثر حساسية في سوريا بعد السقوط. هكذا تحوّل الدروز، من دون رغبة جماعية بالضرورة، إلى مدخل إسرائيل الأول نحو الداخل السوري، وإلى ورقة ضغط يستخدمها الاحتلال في محادثاته مع واشنطن وموسكو، وفي رسائله إلى دمشق أيضاً.

لكن التحوّل الأخطر لم يكن في الدعم المباشر، بل في طبيعة الرسائل التي وجهتها إسرائيل من خلاله. فتل أبيب لم تُظهر استعداداً لمساعدة الدروز على الانفصال كما رُوّج أحياناً، بل على بقائهم خارج سلطة دمشق الجديدة إلى حين تتبلور موازين القوى. وهذا المعنى هو جوهر الاستراتيجية: إطالة المرحلة الرمادية في الجنوب، ومنع الجيش السوري من تثبيت سلطة مركزية هناك، وتكريس شعور بأنّ المنطقة لا تزال “مفتوحة” لحلول متعددة. ومن هذه الزاوية، لم يكن الدعم الإسرائيلي للدروز عملية إنقاذ، بل عملية استباق، استباق تشكّل دولة تستطيع أن تتعامل مع الجنوب باعتباره جزءاً موحداً من سيادتها لا مجال لتفكيكه.

ومع مرور شهور السنة الأولى بعد السقوط، أصبح واضحاً أنّ ملف الدروز بالنسبة لإسرائيل ليس قضية حماية أقلية، ولا امتداداً عاطفيًّا لهدوء العلاقات عبر الجولان، بل أداة استراتيجية: الضغط على دمشق، مراقبة الجنوب، السيطرة على شرائح من الجغرافيا، وتقييد حركة الدولة الجديدة. ومن خلال هذا الملف، باتت إسرائيل تحتفل -بطريقتها- بسقوط الأسد: ليس لأنّها خسرته، بل لأنّها ربحت مساحة كانت محرّمة عليها لعقود.

الغارات: شكلٌ قديم لوظيفة جديدة.

 على امتداد السنوات التي تلت عام 2011، بدت الغارات الإسرائيلية على سوريا جزءاً من روتين الحرب: ضربات تستهدف شحنات إيرانية، أو مخازن أسلحة، أو مواقع للحرس الثوري، ضمن استراتيجية “المعركة بين الحروب” التي استخدمتها تل أبيب لإضعاف خصومها من دون الانزلاق إلى حرب شاملة. كان النظام يعرف قواعد اللعبة، وإسرائيل تعرف كيف تُمسك بحدودها الأدنى: لا ردّ، ولا انعطاف كبير في مسار الصراع. لكن هذا المشهد تغيّر بالكامل بعد سقوط الأسد، من دون أن يتغير شكل الضربة نفسها.

فخلال السنة الأولى بعد السقوط، ازدادت الغارات عدداً ودقّةً وجرأةً، ليس لأنّ التهديد الإيراني ما زال قائماً كما كان، بل لأنّ إسرائيل بدأت تستخدم القوة الجوية لتثبيت ملامح سوريا الجديدة وفق مقاييس أمنها، لا وفق المعطيات الداخلية لسوريا نفسها. فالقصف الذي أصاب وزارات سيادية في دمشق -بينها مقرّ وزارة الدفاع، وقيادة الشرطة العسكرية، ومواقع حيوية في سفح قاسيون- لم يكن جزءاً من الحرب القديمة، بل رسالة مباشرة: بناء الدولة الجديدة يجب ألا يشمل بناء قوة عسكرية قادرة على فرض قواعد اشتباك مختلفة.

واللافت أنّ معظم هذه الغارات جاء في لحظات سياسية حسّاسة داخل دمشق: تشكيل الحكومة الانتقالية، إعلان إعادة هيكلة الجيش، أو تحركات وحدات من الجيش الجديد باتجاه الجنوب. وكأنّ إسرائيل قررت استخدام قوتها الجوية بوصفها أداة “ضبط إيقاع”، تمنع من خلالها أيّ تسارعٍ في تشكيل بنية عسكرية يصعب التعامل معها لاحقاً. لم تعد الغارة “ضربة استباقية ضد إيران”، بل “رسالة ضد سوريا إن بدأت تقترب من قدرات الدولة”. وهذا هو التحوُّل الجوهري في العام الأول بعد السقوط.

وتكشف طريقة التعاطي الإسرائيلي مع هذه الهجمات -ومع التغطية الإعلامية المصاحبة لها- أنّ تل أبيب لم تعُد ترى نفسها مضطرة إلى تقديم مبررات واسعة كما كانت تفعل حين كان النظام موجوداً. ما يعني أنّ الضربات التي ستتكرّر، لأنها مفهوم الأمن الجديد لسوريا ما بعد التغيير، تكشف أنّ إسرائيل تعتبر نفسها طرفاً في تعريف مستقبل البلاد، لا مجرّد مراقب أو لاعب خارجي. فالغارة هنا ليست تكتيكاً عسكرياً، بل عنصراً من عناصر فرض معادلة على دولة تُعاد ولادتها.

وفي ظل غياب الدفاع الجوي السوري القادر على الرد، وتردّد روسيا في الدخول كضامن كما كانت تفعل سابقاً، تحوّلت القوة الجوية الإسرائيلية إلى أداةٍ ناعمة وخشنة في آنٍ واحد: تمنع، تراقب، وتعيد رسم الحدود العسكرية لسوريا الجديدة. هكذا، وبدون إعلان، أصبحت الغارة “الاحتفال الإسرائيلي الأول” بسقوط الأسد: احتفال بحقيقة أنّ النظام الذي كان يملك خطاباً بلا قوة، قد استُبدل بدولة تملك طموحاً بلا قدرة — بعد!

خوف إسرائيل مما بعد السقوط.

لم يكن السوريون بحاجة إلى كثيرٍ من الخيال ليتوقعوا أنّ إسرائيل لن تحتفل بسقوط الأسد؛ فالعلاقة بين الطرفين لم تكن يوماً علاقة حرب تُنتظر نهايتها. ومع ذلك، فإنّ سلوك إسرائيل بعد السقوط بدا أقل من “الطبيعي” وأكثر من مجرّد “عدم اكتراث”.

إذ ظهرت صورة نتنياهو داخل الأراضي السورية، فيما أعلنت هيئة البث الإسرائيلية -في 17 تشرين الثاني- أنّ المفاوضات مع سوريا وصلت إلى طريقٍ مسدود. لم يكن السبب غامضاً: إسرائيل ترفض الانسحاب من المناطق التي احتلتها بعد سقوط النظام، وتريد “اتفاق سلام كامل” لا “اتفاقاً أمنياً”. أمّا الشرع فكان يصرّ على الانسحاب كشرط أول، ما دفع إسرائيل إلى تجميد المسار كله. وبعدها بيومين، في 19 تشرين الثاني، أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ رئيس الوزراء ووزيرَي الدفاع والخارجية جروا جولة في جنوبي سوريا، فيما كانت دورية إسرائيلية تتوغّل بين أوفانيا وعين النورية شمالي القنيطرة. لم تكن هذه أخباراً متفرقة؛ كانت خريطة سياسية تُرسَم على الأرض.

هذا الهدوء الإعلامي الإسرائيلي، مقابل الحركة العسكرية المكثّفة، يفتح الباب على سؤال أكبر: هل كان سقوط الأسد مكسباً لإسرائيل أصلاً؟

هنا تحديداً يظهر الجزء الصادم من الصورة: إسرائيل لم تكن تنظر إلى الأسد كعدوٍّ يجب أن يرحل، بل سقف ثابت لطموح السوريين. نظامٌ هش، قابل للضبط، ويمكن التنبؤ بسلوكه. كلّ شيءٍ فيه معروف: تحالفاته، ردود فعله، حدوده الفعلية. سقوط هذا السقف هو ما جعل إسرائيل تقلق. ولهذا لم تحتفل. ليس لأنّ الاحتفال غير لائق، بل لأنّ البديل غير محسوم.

ومن هنا نفهم لماذا تعاملت إسرائيل مع دولة الشرع بطريقة تجمع بين الضغط العسكري والمفاوضات. في باريس وباكو، حيث عُقدت جولات تفاوضية اعترفت بها دمشق بلهجة حذرة، حاولت إسرائيل فرض رؤيتها لمنطقة عازلة أوسع من اتفاق 1974، ورأت أنّ أيّ انسحابٍ مبكر من الجنوب يعني السماح بتشكّل قوة سورية جديدة غير مقيّدة بالإرث القديم. وفي كلّ مرّةٍ كانت سوريا تطرح فيها ملف الانسحاب، كانت إسرائيل تردّ بشرط سياسي: “اتفاق سلام كامل”. هذا الشرط لم يكن تعنّتاً فقط؛ كان خشية من أن تتغير بنية الدولة السورية قبل توقيع أيّ اتفاق، وأنّ تخرج إسرائيل من مرحلة “التفاوض مع دولة لم تكتمل بعد” إلى مرحلة “التفاوض مع دولة مكتملة يصعب ابتزازها”.

وحتى العمليات العسكرية -من اجتياحات القنيطرة إلى الهجوم الكبير على بيت جن- لم تكن مجرّد ملاحقة “مجموعات مسلحة” كما يرد في بعض البيانات. كانت جزءاً من إعادة تعريف السيطرة: تكريس وجود ميداني واسع، وتعميق خطوط التماس، وإرسال رسالة بأنّ الحدود الجديدة تُرسَم بالنار، لا بالتصريحات. لذلك لم يكن ظهور صورة نتنياهو داخل الأراضي السورية فعل استعراض؛ كان تسجيل حضور داخل فراغ سياسي لم يتماسك بعد.

كلّ هذا يفسّر لماذا لم تُطلق إسرائيل بالوناً سياسيًّا واحداً احتفالاً بسقوط الأسد. ما سقط لا يخيفها. ما بعده هو ما يقلقها. الأسد كان معادلة مستقرة، حتى في عداوته الصورية. أمّا سوريا الجديدة فليست معادلة بعد. إنّها سؤال مفتوح، وربما فرصة، وربما تهديد، وربما بداية دولة قادرة على استعادة ما فقدته. وإسرائيل، التي تفهم معنى اللحظات الفاصلة في الجغرافيا، لا تحتفل بانهيار خصم، بل تتحرك سريعاً لتثبيت شروط اللعبة قبل أن يخرج لاعب جديد إلى الملعب.

وهكذا يصبح غياب الاحتفال جزءاً من المعادلة نفسها: إسرائيل لم تخسر الأسد، بل خسرت اليقين. وما تفعله اليوم -من التوغّلات إلى التفاوض- ليس إلا محاولة لصياغة مستقبل المنطقة قبل أن تكمل كتابته دمشق بنفسها.

كيف احتفلت إسرائيل بسقوط الأسد.. وكيف نحتفل؟

بعد عامٍ كامل على سقوط الأسد، تتشكّل خريطة جديدة لسوريا والمنطقة، لكن الخريطة لا تُقرأ من عدد الزيارات ولا بيانات التهاني؛ تُقرأ من اتجاه القلق. وإذا كان السوريون قد احتفلوا بسقوط الرجل الذي حوّل دولتهم إلى ركام، فإنّ إسرائيل اختارت الاحتفال بطريقة أخرى تماماً: بالسلاح، لا بالكلمات. فاحتفالها ليس في ضجيج السياسة، بل في صمت الحسابات. تنظر إلى الجنوب وتتقدّم، ترى مفاوضات متعثرة فتجمّدها، تشاهد زيارة الشرع لواشنطن فترد بصورة داخل الأراضي السورية، تراقب إعادة بناء الدولة فترسم حدوداً جديدة بالنار. هذا هو الاحتفال الوحيد الذي تجيده: الاحتفال بالفرصة قبل أن تُغلق.

لكن ما لم تفهمه إسرائيل بعد هو أنّ سقوط الأسد ليس حدثاً، بل بداية زمن. وأنّ سوريا التي خرجت من أعمق نقطة في تاريخها ليست مجرّد دولةٍ تبحث عن اعتراف، بل مجتمعٌ يتعلم من جديد كيف يستعيد نفسه وحدوده وطموحه. لهذا لا يكفي أن تتوغّل دورية هنا أو تُعطّل مفاوضة هناك؛ فهذه أدوات إدارة الفراغ، لا أدوات إدارة المستقبل. إسرائيل لا تخاف سوريا التي سقطت، بل تخاف سوريا التي يمكن أن تقوم. تخاف الدولة التي لا تعرفها، والجيش الذي لم يرث هزائم الماضي، والسياسة التي لا تخضع لمعادلة الأسد: الهدوء مقابل البقاء.

ولهذا بالضبط، يبدو احتفال السوريين طبيعياً وصافياً، بينما يبدو “احتفال” إسرائيل أقرب إلى انفعالٍ مكتوم: المزيد من الجنود، المزيد من الشروط، المزيد من الحذر. كأنّها تقول للسوريين: “لم ينتهِ شيء بعد”. لكن السوريين -الذين خرجوا من حربٍ دامية ونظامٍ مفترس- يعرفون أنّ ما انتهى ليس الأسد وحده، بل انهيار السقف الذي ظلّت إسرائيل تراهن عليه نصف قرن.

وفي النهاية، حين نسأل: كيف احتفلت إسرائيل معنا بسقوط الأسد؟

فالجواب واضح: هي احتفلت بطريقتها، تحتفل بأنّ السقف القديم انهار، وأنّ الفرصة ما تزال مفتوحة لتشكيل ما بعده، ونحن نحتفل بطريقتنا أيضاً، نحتفل لأنّ ما سقط لم يكن نظاماً فقط، بل الخوف نفسه. ومَن يسقط عنه الخوف، لا يخشى من جنوبٍ محتلّ، ولا من صورةٍ لنتنياهو داخل أرضه، كل ما يخشاه هو العودة إلى الماضي، والماضي هذه المرة.. سقط ولن يعود.

 

شارك

مقالات ذات صلة