مدونات
أثار فيديو متداول مؤخراً عن زوجةٍ أُجبرت على تقبيل قدم حماتها أمام طفلها، مقابل السماح لها بالعودة إلى منزلها، نقاشاً واسعاً حول العنف الأسري في المجتمع. المشهد كان صادماً، لا بسبب الإذلال وحده، بل لأنّ الزوج كان شاهداً ومشاركاً، يصوّر اللحظة ويكرّس القهر بدل أن يحمي زوجته.
الفيديو فجّر غضباً واسعاً وطالب كثيرون بمحاسبة الجناة وتقديم الدعم للضحية وطفلها، لكن السؤال كم امرأة تتعرّض للعنف النفسي أو الجسدي دون كاميرا و دون ضجيجٍ ودون يدٍ تمتدّ للمساعدة؟
ضحايا بلا صوت
هذه القصة لم تُكشف لأنّها حالة نادرة، بل لأنّه وُثِّقت. ولكن هل هي حالة فردية أم أنّ هناك نساء كثر غيرها يتعرضن للعنف ولكن لا يستطعن التحدث؟
الأخطر من العنف هو تبريره واعتياده، حين يُصور الضرب على أنّه مشاكل داخلية وتحدث في كلّ عائلة، وأنّ الإهانة أمر بسيط يمكن تقبله، كم امرأة اعتادت الإهانة حتى إنّها لم تعد تراها جريمة؟ بعض النساء أنفسهن أصبحن يتعاملن مع هذه المشاهد كأمرٍ “طبيعي”، لا يستدعي الشكوى ولا حتى الاعتراض.
في مجتمعات ما زالت تروّج أنّه يحقّ للرجل ما لا يحقّ لغيره، وأنّه إذا ضربت المرأة فلا بدّ أنّها فعلت شيئاً أو أنّ هناك سبب ما لهذا، أو أنّ هذا قدرها ونصيبها ويجب أن تتحمّل وتصبر لأجل أطفالها.
بهذه الكلمات يُعاد إنتاج العنف جيلاً بعد جيل، ويُشرعن اجتماعياً قبل أن يُدان قانونياً.
حين يُساء استخدام الدين لتبرير الجريمة
كثيراً ما يُستدعى الدين لتبرير ممارسات لا تمت إليه بصلة، بينما الحقيقة أنّ الإسلام جاء في زمنٍ كانت فيه المرأة تُدفن حيّة، وتُباع وتُشترى، بلا حقّ في القرار أو المال أو الاختيار، فجاء ليُحدث قطيعة واضحة مع هذا الواقع، فصان حقّ المرأة وكرمها وأعطاها كلّ حقوقها في التعليم والعمل وحقّ الاختيار والقبول أو الرفض.
يقول الله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم) وهذا التكريم يشمل المرأة والرجل دون قيد أو شرط، فالكرامة في الإسلام حقّ أصيل لا يسقطه الزواج، ولا العادات، ولا التقاليد، وأيّ ممارسة تقوم على الإهانة أو الإذلال أو الإكراه لا أصل لها في الشريعة ولا يمكن تبريرها دينياً وهي نقيض صريح لمقاصد الإسلام.
الزواج في القرآن قائم على المودة والرحمة، لا على الطاعة العمياء، ولا على القهر، ولا على تحمّل الأذى باسم الصبر، والمشكلة ليست في الدين، بل في تأويلاتٍ اجتماعية ذكورية اختزلت النصوص، وغيّبت المقاصد، وحوّلت القوامة إلى سلطة، والطاعة إلى أداة إذلال.
الجهل بالحقوق أساس المشكلة.
لا يبدأ العنف الأسري بالضرب فقط، بل يبدأ في اللحظة التي تقتنع فيها المرأة أنّ ما تتعرّض له: قدر أو نصيب أو واجب حينها يتحوّل الظلم إلى أمرٍ طبيعي، وتصبح الإهانة جزءاً من الحياة اليومية.
تكبر نساء كثيرات وهن يتعلمن واجباتهن كابنة وزوجة وأم، دون أن يتعلمن حقوقهن كإنسان. هذا الجهل لا يصنعه الأفراد وحدهم، بل تصنعه منظومة اجتماعية وتعليمية وثقافية كاملة.
التوعية: خط الدفاع الأول
توعية المجتمع بحقوق المرأة ليست رفاهية، بل ضرورة، وأولى الخطوات التي يجب أن تتبنّاها الحكومات ومنظمات المجتمع المدني وتبدأ بنشر الوعي وتعريف المجتمع عامة والنساء خاصة بحقوقهن القانونية والدينية، وتوضيح أشكال العنف الجسدي والنفسي منها وكسر ثقافة الصمت والخجل.
التوعية تبدأ من المناهج التعليمية من تعليم الصغار أنّ الكرامة غير قابلة للتفاوض، ومن الإعلام وما يُعرَض على مواقع التواصل الاجتماعي وإقامة ندواتٍ اجتماعية توعية تخاطب المجتمع ومن خطاب ديني مسؤول يعلّم الناس الدين الحقّ. فالتوعية يجب أن تستهدف النساء والرجال وكلّ أطياف المجتمع معاً، لأنّ تغيير الثقافة مسؤولية جماعية.
القانون.. الحماية واجب الدولة
لا تكفي التوعية وحدها دون مظلّة قانونية حقيقية، يجب إصدار قوانين واضحة تجرّم العنف الأسري الجسدي والنفسي، وأن يكون هناك آليات شكوى آمنة تحفظ حياة المشتكيات، وتردع الجناة وإقامة مراكز حماية وإيواء لمن ليس لهن داعم أو معيل، ولا يستطعن حماية أنفسهن وتقديم وضمانات تمنع الانتقام من الضحية.
المرأة لا تحتاج فقط إلى نصيحة “اشتكي”، بل إلى منظومةٍ تحميها إن اشتكت، ما كشفه الفيديو ليس قصة فردية، بل نافذة صغيرة على واقع أوسع وأكثر قسوة، واقع تعيش فيه نساء كثيرات العنف بصمت، بلا كاميرا، وبلا دعم، وبلا أمل قريب.
حماية المرأة تبدأ بالوعي، وتُستكمل بالقانون، وتترسّخ بثقافة مجتمعية ترفض تبرير العنف، أيًّا كان شكله أو غطاؤه؛ فالكرامة ليست منحة بل حقّ لا يجب التنازل عنه.


