مدونات
أسماء البري
بعد مرورِ عامٍ كامل على النّصر الذي شكّل نقطة تحوُّل بارزة في المشهد السوري اليوم، يعود مفهوم الانتماء الوطني إلى الواجهة بوصفه أحد أكثر المفاهيم التي تعرّضت لإعادة تفكير وتقييم خلال الفترة الماضية. فالسنة الأولى التي تلت هذا الحدث لم تكن امتداد زمني عابر، بل كانت مساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة المجتمع على التماسك، وللمعنى الفعلي للارتباط بالأرض والدولة والهوية بعد سنواتٍ ثقيلة من التحديات والظلم.
وجد السوريون أنفسهم خلال هذا العام أمام واقعٍ جديد، لا يحمل فقط آثار المرحلة الماضية، بل يفرض أيضًا أسئلة عميقة حول معنى الانتماء في ظل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، وحول الدور الذي يمكن لكلّ فردٍ أن يؤديه في مرحلة تتطلّب الكثير من العمل والكثير من الصبر. وهكذا، تحوّل الانتماء من فكرةٍ تُستحضر في المناسبات إلى حالةٍ تُقاس بمدى الاستعداد للمشاركة في البناء، وبالقدرة على مواجهة الظروف اليومية بوعي ومسؤولية.
انتماء أكثر هدوءًا وارتباطًا بالواقع.
خلال العام الذي تلا النصر، بدا واضحًا أنّ التعبير عن الانتماء اتخذ منحى أكثر واقعية وهدوءًا. فقد تراجع الاعتماد على الشعارات العاطفية لصالح سلوك يومي يعكس حرص الناس على الحفاظ على استقرار شؤونهم الأساسية.
وبات الانتماء يظهر في تفاصيل صغيرة مثل الحرص على الاستمرار في العمل رغم الظروف، رغبة في تحسين الخدمات المحلية، دعم لمبادرات بسيطة تُسهم في تحسين البيئة المحيطة، وحتى في طريقة حديث الناس عن المستقبل واحتمالاته.
هذا التحوّل في التعاطي مع فكرة الانتماء يعكس تطورًا طبيعيًّا في مجتمع عاش سنوات من التقلّبات. فالمواطن اليوم ينظر إلى الانتماء باعتباره مسؤولية مشتركة، لا موقفًا مؤقتًا، وباعتباره فعلًا يمكن قياسه بمدى مساهمته في الحفاظ على ما تحقق من استقرار، وبمدى قدرته على المشاركة في مواجهة التحديات القائمة.
الشباب طاقة تبحث عن إشراقة الطريق.
لعلّ أبرز ما ميّز العام الماضي هو حضور الشباب في واجهة المشهد الاجتماعي.
فقد عبّر كثير منهم عن رغبةٍ في تقديم شيء مختلف، سواء من خلال مشاريع صغيرة بدأوا بها، أو مبادرات تطوعية بدأت تأخذ شكلًا أكثر تنظيمًا. ولأنّ هذا الجيل نشأ وسط تحديات حادة، فقد اكتسب نظرة عملية للواقع؛ نظرة ترى أنّ الانتماء لا يتحقّق بقدر ما يتحقق عبر المشاركة، مهما كان حجمها.
هذه المشاركات لم تكن دائمًا كبيرة أو لافتة، لكن قيمتها جاءت من كونها محاولات حقيقية لإثبات أنّ الانتماء ليس مفهومًا ثابتًا، بل حالة تتشكّل بحسب الظروف ورغبة المجتمع في التطور.
المغتربون حضور لا تلغيه المسافات.
أمّا السوريون في خارج البلاد، فقد شكّلوا حالة خاصة في قراءة الانتماء خلال العام الماضي.
فالمتابعة الدائمة للأحداث، ودعم الأسر، والمساهمة في مبادرات صغيرة عندما تسمح الظروف، كلها أشكال عبّر من خلالها كثير من المغتربين عن ارتباطهم ببلدهم، رغم المسافة والظروف المختلفة.
وبالنسبة لهؤلاء، فإنّ الانتماء ليس شرطًا أن يكون حضورًا جسديًا، بل هو علاقة متواصلة مع المكان الأول، علاقة لم تنقطع رغم تعدد البيئات الجديدة التي يعيشون فيها.
من الكلام إلى العمل الجاد اتجاه واضح
ما يمكن رصده بوضوح هو أنّ الانتماء خلال العام الماضي أصبح مرتبطًا بالفعل أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
فالكثير من المواطنين باتوا يرون أنّ الحفاظ على الاستقرار، والمساهمة في تحسين الحياة، وتعزيز الثقة بالمؤسسات والخدمات، هي خطوات أساسية في ترسيخ علاقة صحية وواقعية مع الوطن.
وما يميّز هذه المرحلة هو أنّ الناس أصبحوا أكثر وعيًا بأنّ الانتماء الحقيقي لا يُختبر في لحظةٍ واحدة، بل في تراكم الأفعال اليومية التي تُسهم، ولو بشكلٍ بسيط، في تحسين الواقع العام.
عام أعاد ترتيب الصورة.
بعد عامٍ على النصر، تبدو صورة الانتماء في سوريا أكثر وضوحًا وتوازنًا. فهي لم تعد فقط حالة عاطفية، ولا مجرّد استدعاء لذكريات أو شعارات، بل تحوّلت إلى مساحةٍ للتفكير والعمل والمراجعة.
ورغم صعوبة الظروف، فإنّ معظم السوريين يدركون أنّ علاقة الإنسان بوطنه تُبنى ببطء، وتحتاج إلى استقرار وثقة وفرص تُتيح للجميع المشاركة في صياغة المستقبل.
وهذا العام، بما حمله من تغيّرات، كان كفيلًا بإعادة ترتيب الصورة، وفتح الباب أمام رؤية جديدة للانتماء ولرؤية أكثر نضجًا وواقعية، وأكثر قدرة على مواكبة المرحلة المقبلة.


