سياسة

رسائل من ساحات وميادين سوريا

ديسمبر 12, 2025

رسائل من ساحات وميادين سوريا

عاشت سوريا يومها الوطني لأول مرة، فيما تشهد أجيال جديدة معنى الانتماء بعد سنوات اللجوء والتهجير القسري واللا استقرار الذي ساهم بتشويه الهوية السورية وخلق سيل من التساؤلات عن الأرض والهوية والانتماء عند جيلٍ أبصر الظلام في التغريبة السورية، ووجد نفسه يرسم راية لا يعرفها، وربما لا تشبهه، في اليوم الوطني لبلادٍ قد يشعر أنّه دخيل عليها وعلى مناسباتها الوطنية، لكنّه سوري أورثه النظام الويل والعذابات.

أشلاء الماضي تشيد عليها أمجاد الحاضر.

من كرم الله ولطفه أن وهب المظلومين سهاماً يرمون بها تحشيدات المعتدين بعد أن جمعوا لهم، فيقذفون بها الباطل بعد إعداد واستعداد، يشاؤون أن يردعوا العدوان، ويشاء الله لنا رايةً شامخةً في أعالي قاسيون، ولواء تمكين في الأرض، وأفئدةً من العرب والعجم تهوي وتهرع إلى دمشق، ولولا ذلك لما كان عيد التحرير، ولا كنّا.

إنّ بحراً من المفردات لا يسعفني في مقام يتطلّب التكثيف والإيجاز، للحديث عن هذه الأرض التي احتضنتنا، وتعشقت القضية بجذور زيتونها فضربت في الأعماق وأثمرت درعاً حصيناً يزود عن حياضها، فكانت إدلب العز آخر من بقي وأول من انتصر، وأسترجع الآن أيام الله لأذكر بها، فسلام الله على مفاتيح النصر الخمسة خلف الخطوط، سلام الله على رجال العصائب الحمراء رأس الحربة في كسر خطوط الدفاع والتشريد بجيش العدو، سلام الله على كتائب خالد بن الوليد سنام الجناح العسكري وعماده، سلام الله على الرماة في سرايا القنص الحراري، لم يبرحوا الجبل، حتى فتحت حماة ومنها ملنا على العدو ميلةً واحدة بلغنا بها دمشق، فكانت موعدنا وفاءً لوعد قد سلف، وعد يعرفه أهل التضحيات والمصابرة من أولي العزم، ويجهله من خذلهم وتخلف عن اللحاق بركبهم.

الدبلوماسية السورية تتوج جهودها.

قد مرّ عام كامل أغيث به الناس، بفضل الله، وها هي سوريا في زمنٍ قياسي تستعيد مكانتها وتعزز حضورها وتبني تحالفاتها وتطور مؤسساتها، ولعمري هذا تجاوز لسقف الطموحات وتمرد على المنطق والمعقول، وكسر واختراق لكلّ النظريات السياسية باستراتيجيةٍ محكمة، وقد توجت كلّ الجهود بتصويت الكونغرس على إلغاء قانون قيصر، فلا يغرنكم تقلب مواقف بعض الجهات الخارجة عن الإجماع الوطني ومسار الدولة، بعد أن فقدت بوصلة الانتماء فاختارت طريقاً ملتوياً معزولاً، بأداءٍ هزيل جله محاولات تتسم بالتشويش والعبثية والتخبط، وسيدركون في قادم الأيام أنّهم تائهون في دهاليز السياسة التي خبرتها الإدارة السورية وعرفت مداخلها ومخارجها، بينما المركب يمضي نحو مستقبل آمن لكلّ السوريين والخيارات مفتوحة أمام الجميع.

إمّا أن ينزل الإنسان نفسه منزل الأداة الرخيصة الصغيرة في مشاريع خارجية، أو يجعل منها ركيزة شامخة تشيد عليها الدولة الكريمة، وما بعد تلاشيهم وانهيارهم ستغدو حينها الجيوب الجغرافية والكنتونات الموهونة وأشباه الدويلات مجرّد خرافات عابرة تقصها الأمهات على الأطفال في حكايات ما قبل النوم، وحينها، لن يكون للخونة على الأرض من مأوى، فمن اشتراهم بالأمس قد باعهم وتركهم حطب مرحلة يأكل بعضه بعضاً، فتذهب التنظيمات المتفككة والمشاريع الانفصالية الطارئة جفاءً ويمكث لنا التمكين في أرض سوريا واحدةً موحدةً، والله غالب على أمره.

بناء ذاكرة جماعية جديدة.

إنّ انقضاء حقبة سيئة وسوداوية من تاريخ أيّ بلدٍ هو بذاته حدث يستحق الاحتفال من الجميع، لإعلان القطيعة المطلقة الأبدية مع الماضي والاحتفاء بالعهد الجديد، وطمس كلّ ما من شأنه أن يستفز الذاكرة ويبتز الألم ويستحضر العذابات التي ارتبطت بتلك الفترة الزمنية، ويكاد لا يخلو بيت سوري تضرّر من النظام بشكلٍ أو بآخر وبنسبٍ متفاوتة بين الجميع، حتى حاضنته ومواليه الذين صدموا قبل 48 ساعة من الاحتفالات بتسريبات العربية التي وجدوا أبناءهم فيها موضع سخرية واستهزاء على لسان بشار الأسد، وقد أدخلهم في محرقةٍ طويلة استمرت لسنوات قد خلت وهو يبني مجده على جماجمهم، وأدركوا أنّ أولادهم قُتلوا بالمجان من أجل اللاشيء.

ولعلّ إقبال الناس على الاحتفال بهذه الحشود الجماهيرية المهيبة رغم  صعوبة الأحوال الجوية وقسوتها، طريقة لإثبات الذات السورية بعد عقودٍ من القمع والكبت، وقد غصت الساحات بأعدادٍ غير متوقعة تنفي مزاعم إجبار الناس على المشاركة بالاحتفالات، وقد ارتفع الصوت السوري عالياً، أعلى من صوت غزال غزال ودعواته للإضراب التي باءت بالفشل، وتوحد الصوت على امتداد المحافظات السورية يحمل راية واحدة ويقف على أرض يؤكد انتماءه لها، تتحلّق حوله وتحميه الوحدات العسكرية من الجيش والقوات المسلحة التي أثبتت وجوداً قوياً في هذه المناسبة عبر الاستعراض العسكري في مراكز المحافظات، وقدّمت حضوراً أنيقاً يعكس التفاوت الجذري الذي يظهر بناء منظومة عسكرية متوازنة.

ويؤكد تأسيس جيش تطوعي احترافي يجعل حتى مقارنته مع جيش النظام المخلوع معيبة وغير صحيحة، وما زال عالقاً في ذهني مشهد الطائرات المروحية فوق الحشود الجماهيرية في ساحة الأمويين وهي تلوح لهم إلى جانب السيف الدمشقي، وكأنّه مشهداً سينمائياً، لو تحدّث به أحدهم قبل عام من الآن، لقالت الناس مجنون يهذي بيننا.

الدفاع عن السردية

إلى مدينة المعارض في دمشق، برز المعرض العسكري للثورة السورية بطريقة تفاعلية غير تقليدية، وكانت الزيارات مفتوحة للجميع للطواف على الذاكرة العسكرية، من رموزها الشهداء الذين ظهروا على شاشاتٍ مضيئة مع نبذة تعريفية، ومسار متسلسل للاطلاع على الأسلحة محلية الصنع بطريقة عصف ذهني تراتبي، من عام 2011 حتى ردع العدوان، إضافة إلى إثراء الزوار بمعلوماتٍ عن تاريخ الواقع العسكري في مختلف الجبهات بندوات تفاعلية شارك فيها وزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة الفرق العسكرية.

وهو ما يؤكد أنّ المعرض بذاته كان معركة للدفاع عن السردية وحماية التاريخ من التزوير، بالتأكيد على رمزية الانتصار بالحسم العسكري لا بالحلول السياسية وتقديم التنازلات، كما فعل الرئيس أحمد الشرع عندما دخل المسجد الأموي فجر عيد التحرير بالبدلة العسكرية التي قاد بها عملية ردع العدوان ودخل بها دمشق، وبهذا أيضاً يستحضر الفتح المبين الذي اتّسم بالتواضع والرحمة بالخلق عندما وقف بين الجموع قائلاً: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطلق رصاصة واحدة في دمشق”.

وهنا لابدّ من وقفةٍ عند هذه القدرة على ضبط الانفعال في لحظة صخب وحماس وضجيج ملأت الأرض ولفتت أنظار العالم إلى دمشق، لكن أراده نصراً لا ثأر فيه، ودخولاً حضارياً يعكس رقي الوحدات العسكرية بينما التاريخ مليء بجيوشٍ بربرية عاثت فساداً وسفكاً للدماء إذا دخلت أرض العدو.

خاتمة

لم تكن الرسائل من ساحات وميادين سوريا في عيد التحرير مجرّد هتافاتٍ عابرة، بقدر ما كانت لحظة إجماع وطني على وحدة الأرض، وقد دحضت الحشود الجماهيرية مطالب مجموعات فئوية انفصالية متشرذمة هنا وهناك، واستعادت المعنى الحقيقي لوطن تنتمي إليه وصانت السردية واعتزت بأمجاد الماضي والحاضر، وأعلنتها 4 ركائز شامخة يقوم عليها العهد الجديد، راية واحدة أرض واحدة جيش واحد شعب واحد، ومن عاداهم آذنوه بالحرب.

شارك

مقالات ذات صلة