تجارب
رأيتها تبكي حينما حَضَرَتْ إلى حفلِ توقيع كتبي، لأنّها رأتْ صورة أولادي معلّقةً على الحائط، ثُمَّ طلبتُ منها أنْ نتصوّرَ بجانبهم، فرفضَتْ الوقوفَ أمام الستاند الّذي يحملُ صورهم، لئلا يُحْجَبَ أحدٌ منهم ولا يظهرَ في الصورة، اختارتْ أن تقفَ على طرفٍ وأنا على طرف، بينما تتوسطنا صورةُ أطفالي، رأيتها تقولُ للمصوّر دعنا نظهر جميعاً في الصورة، ورأيتها تبكي أكثر من مرّة، لكنَّ أكثرَ ما أشجاني أنّني وجدتُ لأمّي بطاقةً كَتَبَتْهَا لي، كنتُ قد وزّعتها على الحضور ليكتب لي كل واحد رسالة إنْ شاء، وقد كتبت لي بها: ( كنتُ أتمنّى أنْ أحضرَ فيكونَ معنا ضمن الحضور “يامن وكنان وأوركيدا وكرمل”، ولا ألقاهم صوراً معلَّقَةً على الحائط، رضينا بما قدّرهُ الله علينا)
أخذتُ البطاقة وقلتُ لأمّي، لكنّهم حضروا يا ماما، صدّقيني لقد كانوا معنا، وكالعادة تصمت قليلاً ثمَّ تبكي ..
أمّي التي لا زالت تتذكر كل التفاصيل عن كل واحدٍ من أطفالي، لتردد لي العبارات ذاتها في كلِّ مرّةٍ وهي تقول (كان يقول لي كنان دائماً أكلك زاكي يا تيتة)، (لم تعد أوركيدا تطلب مني الآيباد ولم يعدْ يشكو لي يامنأنّها تستحوذ عليه)، (كرمل الصغيرة ماتت صغيرة جدا، لم تر شيئاً من الدنيا بعد، تعرفين يا آلاء، كرمل نسخة منكِ وأنتِ صغيرة..).
أمّي القويّة، نعم أُحِبُّ أنْ أطلقَ عليها هذهِ الصفة، وربّما وَرِثْتُ شيئاً من قوّتها التي هيَ ذاتُهَا لا تدركُ مداها، لكنّها تنسابُ في صوتي ونظرةِ عيني، يُفجِعُهَا الاحتلال بقتل أحفادها، وشبيهِ أولادها (يامن ) أو كما تحبُّ أن تناديَه (ابني).
يجعلُ نظرتَهَا أحزنَ، وصوتَهَا أشجنَ، وقلبَهَا مفرطاً في العزاء، لكنّها من حيث لا تعلم، ما زالت روحها تمدّني بالقوة في كلّ مرّة تقول لي (سيكون كل شيء بخير يا آلاء)، أو حينما تضحك وتبدأ بسرد تنبؤاتها لي عن أحداث تتوقع حدوثها معي ربّما، وحين تتطابق نبوءاتها مع الواقع نضحك كثيراً، ونفرح أننا ننسى قليلاً أن نبكي.
أمّي الوقورة، أقف أمامكِ خجلى أيتها الجدّة الأجمل في التاريخ، لقد أنجبتِ بنتاً اجتاحها الحزن، أقول لكِ أحياناً أنني ربّما ورثتُ حزنَ أجدادي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأشعر أنّكِ تشعرين بثِقَلِ هذا القول عليّ، لكنّني أدركُ ما أقول يا ماما، أعرفُ تماماً أنَّ خطواتنا في الحياة الدنيا كلّها مقدرة تقديراً دقيقاً، وأنَّ الله عزّ وجلّ حاشاه أن يخطئ تقديره، أعرفُ أنّكِ تحزنينَ عليّ، تحملينَ في قلبكِ هذا الهمَّ الكبير، وأنا أحزنُ لكلِّ هذه الأثقال التي تُكَدّسينها في قلبكِ النبيل، ثقي أنّ الله عزوجل أرحمُ بي منكِ يا حبيبتي، وأنّني بين يديه مطمئنةٌ وفي سكينةٍ مطلقة، صدّقيني كلُّ خططنا واهيةٌ أمامه، كلّها ليس لها معنى، قبل أيامٍ سألني مذيعٌ في مقابلة صحفية، قال لي ماذا تخططينَ لقادمِ الأيّام؟ ضحكتُ في المقابلة وها أنا أسرّبُ لك إجابتي قبل عرضها على الإعلام، قلتُ له لقد هذّبني الله عز وجلّ، وعلّمني ألّا أُخطِّط، بعدَ هذه الحرب الكثير من الخططِ التي كنتُ أرسمها تلاشتْ وتطايرت، ضحكتُ على نفسي فقدْ كنتُ أرسمُ الخططَ وأجتهدُ في ذلك، ثمَّ كلُّ شيء مُسِح، لقد تركتُ القلم لله عزّ وجلّ يرسمُ لي حياتي كما يشاء، ولا أرهقُ نفسي بالتفكير، لا أعلمُ لماذا حتّى المذيع والمصوّر كانا متعجبَيْن من إجابتي إلى هذا الحدّ، مع أنّ حديثي كانَ طبيعياً لغزاويّ عاش عامَين من الإبادة، لقد فقدتُ أغلى شيء على قلبي في هذه الحرب ولله الحمد، لكنَّ أكثرَ ما أشكر الله عزّ وجلّ أنّه لم يُفقدني قربَه، وصاله، ولطفه، نوره، مدده، وأنّني لمستُ حقيقة أنْ يكون ربّي أقرب لي من حبل الوريد.
أمّي الحبيبة
كوني بخير، فأنا والله بخير كثير وكذلك أحفادك الأمراء ( يامن وكنان وأوركيدا وكرمل) يا أجمل الجدّات وأبهاهن وأعظمهن، يا أمّ قلبي.
10 ديسمبر 2026




