مدونات
الكاتب: ظاهر صالح
/ في الوقت الذي يترقب فيه العالم خارطة طريق تفضي إلى إحلال سلام مستدام في قطاع غزة، تبرز ملامح المرحلة الثانية من خطة الإدارة الأميركية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، كوثيقة شديدة الجدل؛ إذ إن هذه الخطة، التي تُسَوَّق على أنّها بوابة لإنهاء الحرب، لا تبدو في جوهرها سوى محاولة لفرض هندسة جيوسياسية جديدة للقطاع، تخدِم بالكامل الأجندة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، وتُهمِّش بصورة منهجية الإرادة الوطنية والسيادة الفلسطينية. إنّها رؤية تُفرِّغ مفهوم السلام من أيّ مضمون عادل أو حقوقي، وتحوّله إلى غطاء لإرساء نموذج احتلال مُدار دوليًا.
هندسة الحكم الخارجي
تشير التسريبات المتعلقة بالمخطط إلى تركيز واشنطن على ترسيخ صيغة وصاية دولية جديدة، تتمحور حول إطلاق “مجلس سلام” يُفترض أن يرأسه ترامب شخصيًا. ويضع هذا الهيكل، بمشاركة شخصيات غربية ذات قرب سياسي وفكري من المشروع الصهيوني مثل توني بلير وجاريد كوشنر، زمام السيطرة على مستقبل غزّة في يد صانعي القرار الأميركيين والغربيين، بعيدًا عن أيّ مرجعية فلسطينية تمتلك شرعية سياسية. أمّا الإدارة المدنية المقترحة، فيُروَّج لها كحكومة تكنوقراط فلسطينية منزوعة الانتماء السياسي، يتم اختيار أعضائها بضوابط صارمة تضمن توافقهم التام مع الإطار الأمني للاحتلال الإسرائيلي. هذا الترتيب لا يعيد إنتاج سوى النسخة المحسّنة من نموذج الإدارة المدنية الذي لطالما فضّله الاحتلال، حيث تدير فصائل فلسطينية الخدمات اليومية للسكان، بينما تبقى السيادة والقرار الأمني الفعلي خارج حدود القطاع وتحت إشراف خارجي كامل يضمن مصالح الاحتلال.
قوة دولية لخدمة الاحتلال
يحمل الشق الأمني في الخطة دلالات لا تقل خطورة؛ إذ يدور الحديث عن تشكيل قوة استقرار دولية تنتشر قواتها في مناطق السيطرة الحالية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وهذا التموضع يعني عمليًّا أنّ القوة الدولية قد تتحوّل وظيفيًّا إلى امتداد ميداني للوجود العسكري الإسرائيلي، وليس بديلًا حقيقيًّا عنه. أما التصريحات الأميركية التي تتحدّث عن انسحاب إضافي لجيش الاحتلال الإسرائيلي بفضل هذه القوة، فهي صياغة تفتح الباب أمام انسحاب جزئي وانتقائي وغير ملزم، بدلًا من الانسحاب الكامل والدائم. ويكمن الخطر الجوهري في احتمال تحوّل هذه القوة إلى درع يحمي الاحتلال من المساءلة الدولية ويمنحه استراحة أمنية مؤقتة، بينما يبقى قطاع غزّة تحت السيطرة الفعلية والرقابة الأمنية للاحتلال، الذي قد يعود متى شاء وتحت أي ذريعة يختارها.
اشتراط نزع سلاح المقاومة
يتبلور جوهر الخطة الأميركية في هدفها الأبرز: فرض مفاوضات تنتهي بنزع سلاح حركة المقاومة الإسلامية “حماس”. هذا المطلب هو، حرفيًّا، استجابة كاملة وغير مشروطة لاحتياجات الاحتلال الأمنية، ويعني عمليًّا إنهاء القدرة العسكرية للمقاومة قبل إرساء أيّ إطار سياسي عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم الوطنية كاملة. وتستند المعادلة التي يسعى الوسطاء لفرضها إلى مقايضة واضحة: انسحاب تكتيكي لجيش الاحتلال الإسرائيلي مقابل تخلي “حماس” عن السلطة وتسليم سلاحها. تُصاغ هذه المعادلة وتُعرض على الطرف الفلسطيني كأمر واقع غير قابل للنقاش، دون منح الفاعل المركزي في غزّة فرصة حقيقية للمشاركة في صياغة مستقبل القطاع السياسي، والأهم دون أيّ ضمانات دولية ملزمة لإنهاء الحصار والاحتلال بشكل نهائي.
لحظة الحقيقة
إن “خطة المرحلة الثانية” لغزة ليست حلًّا جوهريًّا للصراع، بل إطارًا لإدارة الأزمة وتدويرها وتجميدها. فهي لا تعالج الجذور العميقة للصراع المتمثلة في الاحتلال والحصار والاعتداء على الحقوق، بل تسعى إلى إعادة تدوير السيطرة الأمنية الإسرائيلية تحت شعار وصاية دولية. إنّها تمنح الاحتلال ما عجزت القوة العسكرية عن تحقيقه: تجريد المقاومة من سلاحها وإعادة هندسة الحكم الفلسطيني بما يتوافق تمامًا مع مصالحه الأمنية.
أيّ عملية سلام حقيقية ومستدامة لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس السيادة الفلسطينية غير المنقوصة والمرجعية الوطنية المستقلة. أما هذا المخطط، فهو مجرّد استعادة لسيناريوهات سابقة بُنيت على تقديم أمن الاحتلال الإسرائيلي كهدف أسمى وحيد، بينما تُقدَّم للفلسطينيين حلول إدارية مؤقتة لا تمتلك أيّ مضمون سيادي. وستظل الإرادة الحرة للطرف الفلسطيني، بكلّ مكوناته، هي لحظة الحقيقة التي ستقرر مصير هذه الخطة المصممة والمفصلة على مقاس الاحتلال، والتي لا يمكن لها أن تنجح دون اعتراف كامل بالحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني.

