تأملات

الخِيانَةُ ليستْ وُجهَةُ نظر!

ديسمبر 6, 2025

الخِيانَةُ ليستْ وُجهَةُ نظر!

قال غسَّان كنفاني مرَّةً: أخشى ما أخشاه أن تُصبحَ الخِيانةُ وُجهَةُ نظرٍ!

مضى غسَّانٌ إلى ربِّه على يدِ عدوِّه، ولكنَّ الذي كان يخشاه لن يحدثَ أبداً، ستبقى الخِيانة هي الخِيانة، ليس لها اسمٌ آخر، وليس لها مترادفات!

خلال اجتياحِ نابليون لأوروبا سنةَ ١٨٠٩م وصلت جيوشُه إلى النمسا، ولكنَّ الجيشَ النمساويَّ هزمَه في مَعركةِ آسبرن، وعندما شعرَ بالانكسار، طلب مِن ضُبّاطِه أن يجعلوا الحربَ استخباراتيّةً قبلَ مُعاوَدةِ الكَرَّة!

عمِل الضُّبّاطُ جاهدين لإيجادِ جاسوس، وأخيراً عثروا على رجلٍ نمساويٍّ يعمل مُهرِّباً على الحُدود، فأمَدَّهم بكلِّ المعلوماتِ الكافيةِ لمُباغتةِ الجيشِ النمساويِّ والانتصارِ عليه في مَعركةِ “بمارخ فيلد”!

وعندما جاء الجاسوسُ ليقبضَ ثمنَ خِيانته، رمى له نابليون صُرَّةً من المال على الأرض!

فقال له الجاسوس: أريدُ أن أحظى بمصافحةِ الإمبراطور!

فقال له نابليون: الذهبُ لأمثالِكَ، أمّا أنا فلا أُصافِحُ مَن خانَ وطنَه!

 

ليسَ في صفحاتِ الأُمَمِ صفحةٌ أظلمُ من تلك الصفحاتِ التي كتبها الخائنون لأوطانهم! إنَّ الخيانة تمشي مُثْقَلَةً بالعار، كأنَّ التاريخَ نفسه يُمسِكُ بطرفِ رداءِ الخائنِ ليجرَّه إلى الهاوية، إذ لم يُعرَف فيهم أحدٌ ختم حياتَه بكرامة، ولا انتهى إلى مجدٍ أو ذِكرٍ حَسَن، بل كانوا في كلِّ عصرٍ جُسوراً يعبر عليها المُحتلّ إلى أن يتمدّد، ثم يرميها حين يفرغ منها في مَزابلِ التاريخ!

 

في فيتنام، لمّا انسحبتِ القوّاتُ الأمريكيّة،  بقي الخائنون الذين خدموا الاحتلال ينتظرون الطائرات على السُّطوح، يتوسّلون آخر فرصةٍ للهروب. لكنَّ الطائراتِ غادرت وتركتهم يُطاردون بين الخوفِ والسُّجون، فسقط منهم مَن سقط، وعاش مَن عاش منبوذاً لا وطن له.

 

وفي الجزائر، ظهر الحَرْكِيّون الذين خدموا الجيشَ الفرنسي، وجمعوا المعلومات ضدّ أبناء بلدهم، فلما رحلت فرنسا تخلّت عنهم، وقالت لهم ببرودٍ: ابقَوا حيث أنتم.

فواجهوا الغضبَ الشعبي، وتفرّقوا بين الموتِ والهروبِ والمخيمات المُهينة، وصار لفظُ “حركيّ” وصمةً تُورّث ولا تُنسى!

 

وفي أفغانستان، تكرّر المشهدُ نفسه سنة ٢٠٢١ حين وقفت جموعُ المتعاونين مع الجيش الأمريكي على أبواب المطار، ينتظرون وعوداً كثيرة، فإذا بهم يُتركون خلف الأسوار، لا يأخذون من الاحتلال إلّا خذلانَه.

 

أمّا في الهند، فقد دفع الخونةُ حياتهم ثمناً لتحالفهم مع الاحتلال البريطاني، فقتل الإنجليز عدداً كبيراً منهم بعدما استخدموهم، لأنَّ المحتلّ لا يثق برجلٍ خان وطنه يوماً.

 

وفي أوروبا، حين تحرّرت فرنسا من النازية، حوكِم الخونةُ محاكماتٍ صارمة؛ أُعدِم بعضهم، وحُلِق شعرُ كثيرٍ من النساء على الملأ، وزُجّ برجالٍ كُثر في السجون!

 

وفي النرويج اقترن اسمُ “كويزلينغ”  إلى أن يصبح مرادفاً لكلمة خائن، لا يُذكَر إلّا مقروناً بالعار.

 

أبو الشَّباب لم يكن ظاهرة، كان مُجرّد صفحة غدرٍ في كتاب الخيانة الكبير الذي لا يوجد وطنٌ على ظهر الأرض إلا وله في صفحة! النَّاسُ هم النَّاسُ في كلِّ عصر، الأسماء فقط هي التي تتغيّر!

وهكذا يبقى القانونُ الأزليُّ الذي لا يتبدّل: المحتلُّ زائل، والخائنُ زائل مرتين؛ يسقط حين يخون، ويسقط حين ينهزم سيّدُه، ويسقط حين يلفظه وطنه. إنَّه خسارةٌ ثلاثيّة لا يخرج منها برأسٍ سالم. والتاريخُ، في صفحاته كلّها، يردّد الحقيقة نفسها: أنّ الخائنَ محكومٌ بالمحو، وأنَّ الأوطان وإن تأخّر نصرُها فإنّها تقوم، وأنَّ العارَ لا يلتصق إلّا بالخائن وحده!

 

شارك

مقالات ذات صلة